لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: الذين يفرحون فقال رضي الله عنه أبو سعيد الخدري وجماعة: الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو تخلفوا عنه، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا: كانت لنا أشغال ونحو هذا، فيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار، ويحبون أن يقال لهم: إنهم في حكم المجاهدين، لكن العذر حبسهم. وابن زيد
وقالت جماعة كثيرة من المفسرين: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود، ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة؟ فقال رضي الله عنه: أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان ابن عباس بمحمد، وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته. وقال أيضا ابن عباس والضحاك أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر بالارتباط إلى تكذيب والسدي: محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم أهل صلاة وصيام [ ص: 442 ] وعبادة، وقالوا هم ذلك عن أنفسهم. وقال فرحوا بإعجاب أتباعهم بتبديلهم تأويل التوراة، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا بل الحق أبلج. مجاهد:
وقال الآية في اليهود، فرحوا بما أعطى الله آل سعيد بن جبير: إبراهيم من النبوءة والكتاب، فهم يقولون: نحن على طريقهم، ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم. وقراءة "أوتوا" بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال. سعيد بن جبير:
وقال أيضا: إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير ذلك، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقدت صحته. ابن عباس
وقال إن الآية في يهود قتادة: خيبر، نافقوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مرة، وقالوا: نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم، وهم يعتقدون خلاف ذلك، فأحبوا الحمد على ما أظهروا، وفرحوا بذلك. وقال نزلت الآية في قوم من اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه في أشياء ثم خرجوا، فقالوا لمن لقوا من المسلمين: إن النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا بإسلامهم، وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا للمسلمين وتمادوا على كفرهم، فنزلت الآية فيهم. الزجاج:
[ ص: 443 ] وقرأ جمهور الناس: "أتوا" بمعنى فعلوا، كما تقول أتيت أمر كذا، وقرأ مروان بن الحكم "آتوا" بالمد، بمعنى: أعطوا بفتح الهمزة والطاء. وإبراهيم النخعي:
قال أبو محمد رضي الله عنه:
وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت.
وقرأ سعيد بن جبير "أوتوا" بمعنى أعطوا، وقد تقدمت مع معناها. وقرأ وأبو عبد الرحمن السلمي: أبو عمرو "لا يحسبن الذين يفرحون" "فلا يحسبنهم" بالياء من تحت فيهما وبكسر السين وبرفع الباء في "يحسبنهم" قال وابن كثير: "الذين" رفع بأنه فاعل "يحسب" ، ولم تقع "يحسبن" على شيء، وقد تجيء هذه الأفعال لغوا لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر: أبو علي:
وما خلت أبقى بيننا من مودة عراض المذاكي المسنفات القلائصا
وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد، فتتجه القراءة بكون قوله: "فلا تحسبنهم" بدلا من الأول، وقد عدي إلى مفعوليه وهما: الضمير وقوله: "بمفازة" فاستغني بذلك عن تعدية الأول إليهما كما استغني في قول الشاعر:
بأي كتاب أو بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب؟
فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر. والفاء في قوله: "فلا تحسبنهم" زائدة، ولذلك حسن البدل، إذ لا يتمكن أن تكون فاء عطف ولا فاء جزاء، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح وجودها بين البدل والمبدل منه، وقوله على هذه القراءة: "فلا يحسبنهم" فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه، نحو: ظننتني أخاه، ورأيتني الليلة عند الكعبة، ووجدتني وجعت من الإصغاء، وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت إن وأخواتها، فكما تقول: إني [ ص: 444 ] ذاهب، فكذلك تقول: ظننتني ذاهبا، ولو قلت: أظن نفسي أفعل كذا لم يحسن كما يحسن: أظنني فاعلا.
وقرأ نافع "لا يحسبن الذين" بالياء من تحت وفتح الباء، وكسر وابن عامر: السين وفتحها نافع "فلا تحسبنهم" بالتاء من فوق، وفتح الباء، والمفعولان اللذان يقتضيهما قوله: "لا يحسبن الذين" محذوفان لدلالة ما ذكر بعده، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن عامر إلا أنه لا يجوز في هذا البدل الذي ذكر في قراءة ابن كثير، ابن كثير ولاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما. وقرأ وأبي عمرو "لا تحسبن" بالتاء من فوق وكسر السين، "فلا تحسبنهم" بالتاء من فوق وكسر السين وفتح الباء، "فالذين" على هذه القراءة مفعول أول لـ "تحسبن"، والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه، كما قيل آنفا في المفعولين. وحسن تكرار الفعل في قوله: "فلا تحسبنهم" لطول الكلام، وهي عادة حمزة: العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب. وقرأ "فلا تحسبنهم" بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء. الضحاك بن مزاحم
والمفازة: مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة، وسمي موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل، قاله وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول الأصمعي العرب : فوز الرجل إذا مات، قال حكيت ثعلب: لابن الأعرابي قول فقال: أخطأ، قال لي الأصمعي أبو المكارم: إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز، وقال سمي اللديغ سليما تفاؤلا، قال الأصمعي: بل لأنه مستسلم لما أصابه. وبعد أن نهى أن يحسبوا ناجين أخبر أن لهم عذابا، ثم استفتح القول بذكر قدرة الله تعالى وملكه فقال: ابن الأعرابي: ولله ملك السماوات والأرض ... الآية، قال بعض المفسرين: الآية رد على الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء .
وقوله تعالى: والله على كل شيء قدير ، قال القاضي ابن الطيب وغيره: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص; لأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحالات، و"شيء" هو الموجود في مقتضى كلام العرب.
ثم دل تعالى على مواضع النظر والعبرة، حيث يقع الاستدلال على الصانع بوجود السماوات والأرضين، والمخلوقات دال على العلم، ومحال أن يكون موجد عالم [ ص: 445 ] مريد غير حي، فثبت بالنظر في هذه الآية عظم الصفات.
واختلاف الليل والنهار : هو تعاقبهما، إذ جعلهما الله خلفة، ويدخل تحت لفظة الاختلاف: كونهما يقصر هذا ويطول الآخر وبالعكس، ويدخل في ذلك اختلافهما بالنور والظلام. الآيات: العلامات. و"الألباب" في هذه الآية: هي ألباب التكليف لا ألباب التجربة، لأن كل من له علوم ضرورية يدركها فإنه يعلم ضرورة ما قلناه من صفات الله تعالى.