فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين
هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ لهم وفي ضمنها وعيد، وقوله: "المخلفون" لفظ يقتضي تحقيرهم وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه، وهذا أمكن [ ص: 375 ] في هذا من أن يقال: "المتخلفون"، ولم يفرح إلا منافق، فخرج من ذلك الثلاثة، وأصحاب العذر، ومقعد: مصدر بمعنى القعود، ومثله:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... ........................
وقوله: "خلاف" معناه: بعد، وأنشد في ذلك: أبو عبيدة
عقب الربيع خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا
يريد: بعدهم، ومنه قول الشاعر:
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تأهب لأخرى مثلها فكأن قد
وقال : هو مصدر خالف يخالف. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فعلى هذا هو مفعول له، والمعنى: فرح المخلفون بمقعدهم لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مصدر، ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف، وكراهيتهم لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله، فهم يظنون بالدنيا، وقولهم: لا تنفروا في الحر كان; لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال، قاله ابن [ ص: 376 ] عباس، ، والناس، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم: فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ، فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم، وقرأ وكعب بن مالك ، ابن عباس وأبو حيوة: "خلف"، وذكرها ولم ينسبها، وقرئ: "خلف" بضم الخاء، ويقوي قول يعقوب "أن لفظة الخلاف هي مصدر من خالف" ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين، وقال الطبري : قال: "لا تنفروا في الحر" رجل من محمد بن كعب بني سلمة، وقال رضي الله عنهما: قال رجل: يا رسول الله، الحر الشديد فلا تنفر في الحر، قال ابن عباس : وفي قراءة النقاش : "يعلمون" بدل :يفقهون". عبد الله
وقال ، ابن عباس وأبو رزين، ، والربيع بن خثيم ، وقتادة : قوله: وابن زيد فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله: وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويحتمل أن يكون صفة حالهم، أي: هم لما هم عليه من الخطر مع الله، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم لأمته: . وروي "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا" محمد لا تقنط عبادي". أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الكلام أوحى الله إليه: "يا
وقوله: "جزاء" متعلق بالمعنى الذي تقديره: وليبكوا كثيرا إذ هم معذبون جزاء، وقوله: "يكسبون" نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب.
وقوله تعالى: فإن رجعك الله إلى طائفة منهم الآية، "رجع" يستوي مجاوزه، وقوله تعالى: "إن" مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه، وأيضا فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه، وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم، وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي [ ص: 377 ] أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب. حاطب
وقوله: إلى طائفة يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدوا، وكرر معنى قتال العدو; لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ولولا تخصيص الطائفة، لكان الكلام: "فإن رجعك الله إليهم" ، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله. وقوله: وماتوا وهم فاسقون نص في موافاتهم، ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عينهم ، وكانت الصحابة إذا رأوا لحذيفة بن اليمان تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها. حذيفة وروي عن أنه قال يوما: بقي من المنافقين كذا وكذا، فقال له حذيفة رضي الله عنه: أنشدك الله أنا منهم؟ فقال: لا، ووالله لا أمنت منها أحدا بعدك؟ . عمر بن الخطاب
وقرأ جمهور الناس: "معي" بسكون الياء في الموضعين، وقرأ -فيما قال عاصم - "معي" بحركة الياء في الموضعين، وقوله: "أول" هو بالإضافة إلى وقت الاستئذان. المفضل
والخالفون: جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر، غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان ثم نساء، وهو جمع خالف.
وقال : الخالفون: النساء، وهذا مردود، وقال قتادة رضي الله عنهما: هم الرجال، وقال ابن عباس : يحتمل قوله: الطبري مع الخالفين أن يريد: مع الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذا من: خلف الشيء إذا فسد، ومنه: خلوف فم الصائم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تأويل مقحم، والأول أفصح وأجرى على اللفظة، وقرأ ، مالك بن دينار : "مع الخلفين" وهو مقصور من "الخالفين"، كما قال: "عردا وبردا" يريد: عاردا وباردا، وكما قال الآخر: [ ص: 378 ] مثل النقا لبده برد الظلل وعكرمة
يريد: الظلال.