فصل :
[ بيان أن المصراة على وفق القياس ] .
ومما قيل إنه على خلاف القياس حديث ، قالوا : وهو يخالف القياس من وجوه : منها أنه تضمن رد البيع بلا عيب ولا خلف في صفة ، ومنها أن { المصراة } ; فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وقد ضمنه إياه ، ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال وقد ضمنه إياه بغير مثله ، ومنها أنه إذا انتقل من التضمين بالمثل فإنما ينتقل إلى القيمة ، والتمر لا قيمة ولا مثل ، ومنها أن المال المضمون إنما يضمن بقدره في القلة والكثرة ، وقد قدر هاهنا الضمان بصاع . الخراج بالضمان
قال أنصار الحديث : كل ما ذكرتموه خطأ ، والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ، ولو خالفها لكان أصلا بنفسه ، كما أن غيره أصل بنفسه ، وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض ، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض ، بل يجب اتباعها كلها ، ويقر كل منها على أصله وموضعه ; فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه ، وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح .
فاسمعوا الآن هدم الأصول الفاسدة التي يعترض بها على النصوص الصحيحة : أما قولكم : " إنه تضمن الرد من غير عيب ولا فوات صفة " فأين في أصول الشريعة المتلقاة عن صاحب الشرع ما يدل على انحصار الرد بهذين الأمرين ؟ وتكفينا هذه المطالبة ، ولن تجدوا إلى إقامة الدليل على الحصر سبيلا ; ثم نقول : بل أصول الشريعة توجب الرد بغير ما ذكرتم ، وهو الرد بالتدليس والغش ، فإنه هو والخلف في الصفة من باب واحد ، بل الرد بالتدليس أولى من الرد بالعيب ، فإن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله ، فإذا أظهر للمشتري أنه على صفة فبان بخلافها كان قد غشه ودلس عليه ، فكان له الخيار بين الإمساك والفسخ ، ولو لم تأت الشريعة بذلك لكان هو محض القياس وموجب العدل ; فإن المشتري إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع ، ولو علم أنه على خلافها لم يبذل له فيها ما بذل ، فإلزامه للمبيع مع التدليس والغش من أعظم الظلم الذي تتنزه الشريعة عنه ، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار للركبان إذا تلقوا واشتري منهم قبل أن [ ص: 16 ] يهبطوا السوق ويعلموا السعر ، وليس هاهنا عيب ولا خلف في صفة ، ولكن فيه نوع تدليس وغش . فصل [ { } ] الخراج بالضمان
وأما قولكم : { } فهذا الحديث وإن كان قد روي فحديث المصراة أصح منه باتفاق أهل الحديث قاطبة ، فكيف يعارض به مع أنه لا تعارض بينهما بحمد الله ؟ فإن الخراج اسم للغلة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك ، وأما الولد واللبن فلا يسمى خراجا ، وغاية ما في الباب قياسه عليه بجامع كونهما من الفوائد ، وهو من أفسد القياس ; فإن الكسب الحادث والغلة لم يكن موجودا حال البيع ، وإنما حدث بعد القبض ، وأما اللبن هاهنا فإنه كان موجودا حال العقد ، فهو جزء من المعقود عليه ، والشارع لم يجعل الصاع عوضا عن اللبن الحادث ، وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع ، فضمانه هو محض العدل والقياس . الخراج بالضمان
وأما تضمينه بغير جنسه ففي غاية العدل ; فإنه لا يمكن تضمينه بمثله ألبتة ، فإن اللبن في الضرع محفوظ غير معرض للفساد ، فإذا حلب صار عرضة لحمضه وفساده ، فلو ضمن اللبن الذي كان في الضرع بلبن محلوب في الإناء كان ظلما تتنزه الشريعة عنه .
وأيضا فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد ، فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري ، وقد يكون أقل منه أو أكثر فيفضي إلى الربا ; لأن أقل الأقسام أن تجهل المساواة . [ الحكمة في رد التمر بدل اللبن . وأيضا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثر النزاع والخصم بينهما ، ففصل الشارع الحكيم صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله النزاع وقدره بحد لا يتعديانه قطعا للخصومة وفصلا للمنازعة ، وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن ، فإنه قوت أهل المدينة كما كان اللبن قوتا لهم ، وهو مكيل كما أن اللبن مكيل ; فكلاهما مطعوم مقتات مكيل ، وأيضا فكلاهما يقتات به بلا صنعة ولا علاج ، بخلاف الحنطة والشعير والأرز ، فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن .
فإن قيل : فأنتم توجبون صاع التمر في كل مكان ، سواء كان قوتا لهم أو لم يكن . [ ص: 17 ]
قيل : هذا من مسائل النزاع وموارد الاجتهاد ، فمن الناس من يوجب ذلك ، ومنهم من يوجب في كل بلد صاعا من قوتهم ، ونظير هذا تعيينه صلى الله عليه وسلم الأصناف الخمسة في زكاة الفطر وأن كل بلد يخرجون من قوتهم مقدار الصاع ، وهذا أرجح وأقرب إلى قواعد الشرع ، وإلا فكيف يكلف من قوتهم السمك مثلا أو الأرز أو الدخن إلى التمر ، وليس هذا بأول تخصيص قام الدليل عليه ، وبالله التوفيق