[ بيان الرسول على أنواع ]
يوضحه الوجه الرابع : أن ; أحدها : بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا . الثاني : بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بين أن الظلم المذكور في قوله : { البيان من النبي صلى الله عليه وسلم أقسام ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } هو الشرك ، وأن الحساب اليسير هو العرض ، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل ، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل ، كما فسر قوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } أنه طلوع الشمس من مغربها وكما فسر قوله : { مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } بأنها النخلة ، وكما فسر قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } أن ذلك في القبر حين يسأل من ربك وما دينك ، وكما فسر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكل بالسحاب ، وكما فسر اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله بأن ذلك باستحلال ما أحلوه لهم من الحرام وتحريم ما حرموه من الحلال ، وكما فسر القوة التي أمر الله أن نعدها لأعدائه بالرمي ، وكما فسر قوله : { من يعمل سوءا يجز به } بأنه ما يجزى به العبد في الدنيا من النصب والهم والخوف واللأواء ، وكما فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم ، وكما فسر الدعاء في قوله : { { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } بأنه العبادة ، وكما فسر أدبار النجوم بأنه الركعتان قبل الفجر ، وأدبار السجود بالركعتين بعد المغرب ، ونظائر ذلك . الثالث : بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله . الرابع : بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فنزل القرآن ببيانها ، كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره . الخامس : بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنا ، كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالخلوق ، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويغسل أثر الخلوق . السادس : بيانه للأحكام بالسنة ابتداء من غير سؤال ، كما حرم عليهم لحوم الحمر والمتعة وصيد المدينة ونكاح المرأة على عمتها وخالتها وأمثال ذلك . السابع : بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له وعدم نهيهم عن التأسي به .
الثامن : بيانه جواز [ ص: 226 ] الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده أو يعلمهم يفعلونه . التاسع : بيانه وإن لم يأذن فيه نطقا . العاشر : أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته ، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف ، فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله تعالى : { إباحة الشيء عفوا بالسكوت عن تحريمه وأحل لكم ما وراء ذلكم } فالحل موقوف على شروط النكاح وانتقاء موانعه وحضور وقته وأهلية المحل ، فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كله لم يكن الشيء منه زائدا على النص فيكون نسخا له ، وإن كان رفعا لظاهر إطلاقه .
فهكذا كل حكم منه صلى الله عليه وسلم زائد على القرآن ، هذا سبيله سواء بسواء ، وقد قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } ثم جاءت السنة بأن القاتل والكافر والرقيق لا يرث ، ولم يكن نسخا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعا ، أعني في موجبات الميراث ; فإن القرآن أوجبه بالولادة وحدها ، فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدين وعدم الرق والقتل ، فهلا قلتم : إن هذه زيادة على النص فيكون نسخا والقرآن لا ينسخ بالسنة ؟ كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث ; لأنه زائد على القرآن .
الوجه الخامس : أن تسميتكم للزيادة المذكورة نسخا لا توجب بل لا تجوز مخالفتها ، فإن تسمية ذلك نسخا اصطلاح منكم ، والأسماء المتواضع عليها التابعة للاصطلاح لا توجب رفع أحكام النصوص ، فأين سمى الله ورسوله ذلك نسخا ؟ وأين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم حديثي زائدا على ما في كتاب الله فردوه ولا تقبلوه فإنه يكون نسخا لكتاب الله ؟ وأين قال الله : إذا قال رسولي قولا زائدا على القرآن فلا تقبلوه ولا تعملوا به وردوه ؟ ، وكيف يسوغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقواعد قعدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ؟
[ ] : الوجه السادس : أن يقال : ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة بزعمكم ؟ أتعنون أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة بطل بالكلية ، أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شيء عليه من شرط أو قيد أو حال أو مانع أو ما هو أعم من ذلك ؟ فإن عنيتم الأول فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك فلا تكون ناسخة ، وإن عنيتم الثاني فهو حق ، ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه ولا رفعه ولا معارضته ، بل غايتها مع المزيد عليه كالشروط والموانع والقيود والمخصصات ، وشيء من ذلك لا يكون نسخا يوجب إبطال [ ص: 227 ] الأول ورفعه رأسا ، وإن كان نسخا بالمعنى العام الذي يسميه السلف نسخا وهو رفع الظاهر بتخصيص أو تقييد أو شرط أو مانع ; فهذا كثير من السلف يسميه نسخا . حتى سمى الاستثناء نسخا ، فإن أردتم هذا المعنى فلا مشاحة في الاسم ، ولكن ذلك لا يسوغ المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن بهذا المعنى ، ولا ينكر أحد نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى بل هو متفق عليه بين الناس ، وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النسخ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بمنزلة ما لم يشرع ألبتة ، وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين - وهو رفع الحكم بجملته تارة وتقييد مطلقه وتخصيص عامه وزيادة شرط أو مانع تارة - كنتم قد أدرجتم في كلامكم قسمين مقبولا ومردودا كما تبين ; فليس الشأن في الألفاظ فسموا الزيادة ما شئتم ، فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيل إليه . رد السنن الناسخة للقرآن
يوضحه الوجه السابع : أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز اقترانها بالمزيد ; لأن الناسخ لا يقارن المنسوخ ، وقد جوزتم اقترانها به ، وقلتم : تكون بيانا أو تخصيصا ، فهلا كان حكمها مع التأخر كذلك ، والبيان لا يجب اقترانه بالمبين ، بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل ؟ وما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق فهو منتقض بجواز بل وجوب تأخير الناسخ وعدم الإشعار بأنه سينسخه ، ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه أو يرفع ظاهره ; فحينئذ يعتقد موجبه كذلك ، فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به ; إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
يوضحه الوجه الثامن : أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره ، كما يعتقد المنسوخ مؤبدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله ، وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه .
الوجه التاسع : أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا وإن تضمن رفع الإجزاء بدونه ، كما صرح بذلك بعض أصحابكم وهو الحق ; فكذلك إيجاب كل زيادة ، بل أولى أن لا تكون نسخا ; فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه وعن غيره ، وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة .
الوجه العاشر : أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا ، وذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة ، وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئا بعد شيء ، وكل منها زائد على ما قبله ، وكان ما قبله جميع الواجب ، والإثم محطوط عمن اقتصر عليه ، وبالزيادة تغير هذان الحكمان ; فلم يبق الأول جميع الواجب ، ولم يحط الإثم [ ص: 228 ] عمن اقتصر عليه ، ومع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه ; إذ حكمه من الوجوب وغيره باق ; فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد لا تكون ناسخا له ، حيث لم ترفع حكمه ، بل هو باق على حكمه وقد ضم إليه غيره .
يوضحه الوجه الحادي عشر : أن الزيادة إن رفعت حكما خطابيا كانت نسخا ، وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه وجزاؤه لا ترفع حكم الخطاب ، وإن رفع حكم الاستصحاب .
يوضحه الوجه الثاني عشر : أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب وكونه مجزئا وحده وكون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه إنما هو من أحكام البراءة الأصلية ; فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول ، ولا أريد به ; فإن معنى كون العبادة مجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها ، وحط الذم عن فاعلها معناه أنه قد خرج من عهدة الأمر فلا يلحقه ذم ، والزيادة وإن رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكما دل عليه لفظ المزيد .