فصل [ ] حكم الطهارة للطواف
وإذا ظهر أن الطهارة ليست شرطا في الطواف ، فإما أن تكون واجبة وإما أن تكون سنة ، وهما قولان للسلف والخلف ، ولكن من يقول هي سنة من أصحاب يقول : عليها دم ، أبي حنيفة يقول : ليس عليها دم ولا غيره ، كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس ، [ ص: 30 ] قال وأحمد شيخنا : فإذا توجه القول بوجوب الدم عليها ، وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال عليها دم ; والأشبه أنه لا يجب الدم ; لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة لا مع العجز ، فإن لزوم الدم إنما يكون مع ترك المأمور أو مع فعل المحظور ، وهذه لم تترك مأمورا في هذه الحال ولا فعلت محظورا ، فإنها إذا رمت الجمرة وقصرت حل لها ما كان محظورا عليها بالإحرام غير النكاح ; فلم يبق بعد التحلل الأول محظور يجب بفعله دم ، وليست الطهارة مأمورا بها مع العجز فيجب بتركها دم . طافت حائضا مع عدم العذر
فإن قيل : لو كان طوافها مع الحيض ممكنا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع ، فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع على أن طوافها مع الحيض غير ممكن .
قيل : لا ريب { أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط طواف القدوم عن الحائض ، وأمر لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج عائشة } فعلم أن محظور لحرمة المسجد أو للطواف أو لهما ، والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة ، ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم ; لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد ، ولا إلى طواف الوداع ; فإنه ليس من تمام الحج ، ولهذا لا يودع المقيم الطواف مع الحيض بمكة ، وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت ، فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب كما هي أقوال معروفة ، وليس واحد منهما ركنا يقف صحة الحج عليه ، بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه .
وهذا كما يباح لها الدخول إلى المسجد واللبث فيه للضرورة ، ولا يباح لها الصلاة ، ولا الاعتكاف فيه وإن كان منذورا ، خرجت من المسجد إلى فنائه فأتمت اعتكافها ولم يبطل ، وهذا يدل على أن منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف ، وإنما هو لحرمة المسجد لا لمنافاة الحيض لعبادة الطواف والاعتكاف ، ولما كان الاعتكاف يمكن أن يفعل في رحبة المسجد وفنائه جوز لها إتمامه فيها لحاجتها ، والطواف لا يمكن إلا في المسجد ، وحاجتها في هذه الصورة إليه أعظم من حاجتها إلى الاعتكاف ، بل لعل حاجتها إلى ذلك أعظم من حاجتها إلى دخول المسجد واللبث فيه لبرد ومطر أو نحوه . ولو حاضت المعتكفة
وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين ; أحدهما : في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها ، وقد تبين ذلك بما فيه كفاية ، والثاني : في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال الضرورة والعجز ; فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ، ولا قول الأئمة ، وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد [ ص: 31 ] شريعته وأصولها ، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم ، فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ، ولقواعد الأئمة ، وبالله التوفيق .