فصل [ ] حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد
المثال السابع : أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدرا من خلافة كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة ، كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس ; فروى مسلم في صحيحه عن ابن طاوس عن أبيه عن عمر : { ابن عباس وسنتين من خلافة وأبي بكر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم عمر بن الخطاب } ، وفي صحيحه أيضا عن طاوس أن كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله قال أبا الصهباء : ألم تعلم { لابن عباس وثلاثا من إمارة وأبي بكر عمر } ؟ فقال أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم " وفي صحيحه أيضا أن ابن عباس قال أبا الصهباء : هات من هناتك ، { لابن عباس واحدة ، فقال : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد وأبي بكر تتابع الناس في الطلاق ، فأجازه عليهم عمر } . ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي سنن أبي داود عن طاوس أن رجلا يقال له كان كثير السؤال أبو الصهباء ، فقال : أما علمت { لابن عباس وصدرا من إمارة وأبي بكر رضي الله عنه ؟ قال عمر : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ابن عباس وصدرا من إمارة وأبي بكر ، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم عمر } . أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ، فقال : أتعلم { ابن عباس } ؟ قال : نعم . أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة
قال : هذا حديث صحيح ، وهذه غير طريق الحاكم عن طاوس ، وقال أبي الصهباء في مسنده : ثنا الإمام أحمد ، ثنا أبي عن سعد بن إبراهيم قال : حدثني محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عكرمة مولى ابن عباس عن ، قال : { ابن عباس ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، قال : فسأله رسول الله : كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا ، قال : فقال : في مجلس واحد ؟ قال : نعم ، قال : فإنما تلك [ ص: 32 ] واحدة ، فأرجعها إن شئت ، قال : فراجعها } . فكان طلق يرى إنما الطلاق عند كل طهر ، وقد صحح ابن عباس هذا الإسناد وحسنه فقال في حديث الإمام أحمد عن أبيه عن جده { عمرو بن شعيب ابن أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد } : هذا حديث ضعيف ، أو قال : واه لم يسمعه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على من الحجاج ، وإنما سمعه من عمرو بن شعيب محمد بن عبد الله العزرمي ، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا ، والحديث الذي رواه { } وإسناده عنده هو إسناد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول ركانة بن عبد يزيد . هذا وقد قال الترمذي فيه : ليس بإسناده بأس ، فهذا إسناد صحيح عند ، وليس به بأس عند أحمد الترمذي ; فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه ، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه ؟ وقال أبو داود : حدثنا ثنا أحمد بن صالح أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرني بعض بني ابن جريج عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة مولى ابن عباس عن قال : { ابن عباس عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ، ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه ، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه : أترون فلانا يشبه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا ؟ قالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ، فقال : راجع امرأتك أم ركانة وإخوته ، فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت ، راجعها ، وتلا : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } } . طلق
وقال أبو داود : حديث نافع بن جبير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده { ركانة طلق امرأته فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم } أصح ، لأنهم ولد الرجل وأهله وأعلم به ، { أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة ، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة } . وأن
قال شيخنا رضي الله عنه : وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي في مسند أحمد - يعني الذي ذكرناه آنفا - فقال : حديث ألبتة أصح من حديث أن ابن جريج ركانة طلق امرأته ثلاثا ، لأنهم أهل بيته ، ولكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد ضعفوا حديث ألبتة ، وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم ، والبخاري أثبت حديث الثلاث ، وبين أنه الصواب ، وقال : حديث وأحمد ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة ، وفي رواية عنه : حديث ركانة في البتة ليس بشيء ; لأن يرويه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عكرمة عن رضي الله عنه أن ابن عباس ركانة طلق امرأته ثلاثا ، وأهل المدينة يسمون الثلاث ألبتة ، قال : قلت الأثرم : حديث لأحمد ركانة في البتة ، فضعفه .
والمقصود أن رضي الله عنه لم يخف عليه أن هذا هو السنة ، وأنه [ ص: 33 ] توسعة من الله لعباده ; إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة ، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة واحدة كاللعان ، فإنه لو قال : " أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين " كان مرة واحدة ، ولو حلف في القسامة وقال : " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله " كان ذلك يمينا واحدة ، ولو قال المقر بالزنا : " أنا أقر أربع مرات أني زنيت " كان مرة واحدة ; فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { عمر بن الخطاب } فلو قال : { من قال في يومه سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر } لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة ، وكذلك قوله : { سبحان الله وبحمده مائة مرة } الحديث ; لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ، ولا يجمع الكل بلفظ واحد ، وكذلك قوله : { من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمده ثلاثا وثلاثين ، وكبره ثلاثا وثلاثين } لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة ، وهكذا قوله : { من قال في يومه لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات } وهكذا قوله في الحديث : { } لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة ، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء ، كقوله تعالى : { الاستئذان ثلاث مرات ، فإن أذن لك وإلا فارجع سنعذبهم مرتين } إنما هو مرة بعد مرة ، وكذلك قول " رأى ابن عباس محمد ربه بفؤاده مرتين " إنما هو مرة بعد مرة ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : { } فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة ، وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى : { لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين الطلاق مرتان } كلها من باب واحد ومشكاة واحدة ، والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله : { الطلاق مرتان } كما أن حديث اللعان تفسير لقوله لقوله تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } .
فهذا كتاب الله ، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب ، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر على هذا المذهب ; فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها ، ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرا للفتوى به ، بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر . عمر
وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة ، وهم يزيدون على الألف قطعا كما ذكره عمر عن يونس بن [ ص: 34 ] بكير قال : حدثني أبي إسحاق محمد بن جعفر بن الزبير عن قال : استشهد من المسلمين في وقعة عروة بن الزبير اليمامة ألف ومائتا رجل منهم سبعون من القراء كلهم قد قرءوا القرآن ، وتوفي في خلافة الصديق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن أبي بكر قال : فلما أصيب المسلمون من محمد بن إسحاق المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع إلى القرآن ، وخاف أن يهلك منه طائفة ، وكل صحابي من لدن خلافة أبو بكر إلى ثلاث سنين من خلافة الصديق كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا ، ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه ، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن ، وإلى يومنا هذا ، فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عمر كما رواه عبد الله بن عباس عن حماد بن زيد أيوب عن عكرمة عن : " إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة " وأفتى أيضا بالثلاث ، أفتى بهذا وهذا . ابن عباس
وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام ، حكاه عنهما وعبد الرحمن بن عوف ، وعن ابن وضاح كرم الله وجهه علي روايتان كما عن وابن مسعود ، وأما التابعون فأفتى به ابن عباس عكرمة ، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه ، وأفتى به ، وأما تابعو التابعين فأفتى به طاوس ، حكاه محمد بن إسحاق وغيره عنه ، وأفتى به الإمام أحمد خلاس بن عمرو والحارث العكلي ، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به وأكثر أصحابه ، حكاه عنهم داود بن علي أبو المفلس وغيرهما ، وأفتى به بعض أصحاب وابن حزم ، حكاه مالك التلمساني في شرح تفريع قولا لبعض المالكية . ابن الجلاب
وأفتى به بعض الحنفية ، حكاه عن أبو بكر الرازي محمد بن مقاتل ، وأفتى به بعض أصحاب ، حكاه شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية عنه ، قال : وكان الجد يفتي به أحيانا .
وأما نفسه فقد قال الإمام أحمد : سألت الأثرم عن حديث أبا عبد الله : { ابن عباس وأبي بكر واحدة وعمر } بأي شيء تدفعه ؟ قال : برواية الناس عن كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه خلافه ، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث ; فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رواية له ، وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة رواية له ، بل الأخذ بما رواه ، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا ، وترك رأيه ، وعلى أصله يخرج له قول إن الثلاث واحدة ; فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان ، وأصحابه يخرجونه على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير . ابن عباس
والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم ، ولم [ ص: 35 ] يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ; فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ; ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإنه كان من أشد الناس فيه ، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم ، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه . عمر
ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد وصدرا من خلافته كان الأليق بهم ; لأنهم لم يتتابعوا فيه ، وكانوا يتقون الله في الطلاق ، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا ، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم ; فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ، ولم يشرعه كله مرة واحدة ، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله ، وظلم نفسه ، ولعب بكتاب الله ، فهو حقيق أن يعاقب ، ويلزم بما التزمه ، ولا يقر على رخصة الله وسعته ، وقد صعبها على نفسه ، ولم يتق الله ولم يطلق كما أمره الله وشرعه له ، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ، ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد ; فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان ، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة الصديق وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به ، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عمر : من أتى الأمر على وجهه فقد بين له ، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه ، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم ، هو كما تقولون . عبد الله بن مسعود
فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه ، ولما كان قد لبس على نفسه ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك { } ؟ تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم
ولما توقف في الإيقاع وقال للسائل : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول ، فاذهب إلى عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس ، فلما جاء إليهما قال وأبي هريرة ابن عباس : أفته فقد جاءتك معضلة ، ثم أفتياه بالوقوع . لأبي هريرة
فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبسوا على أنفسهم ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموه ، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه ، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه ; إذ لم يقبل رخصة الله وتيسيره ومهلته ، ولهذا قال عمر بن الخطاب لمن طلق مائة : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ; إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، وأتاه رجل فقال : إن عمي طلق ثلاثا ، فقال : إن عمك عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا ، فقال : أفلا تحللها له ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه . ابن عباس
[ ص: 36 ] فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق ، فجرت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا ، فلما ركب الناس الأحموقة ، وتركوا تقوى الله ، ولبسوا على أنفسهم ، وطلقوا على غير ما شرعه الله لهم ، أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدر إلزامهم بذلك ، وإنفاذه عليهم ، وإبقاء الإصر الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه ، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمن ، فجاء أئمة الإسلام ، فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم ، قاصدين رضاء الله ورسوله وإنفاذ دينه .
فمنهم من ترك القول بحديث لظنه أنه منسوخ ، وهذه طريقة ابن عباس . الشافعي
قال : فإن كان معنى قول إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة بمعنى أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئا فنسخ . ابن عباس
فإن قيل : فما دل على ما وصفت ؟ قيل : لا يشبه أن يكون قد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف . ابن عباس
فإن قيل : فلعل هذا شيء روي عن فقال فيه عمر بقول ابن عباس . قيل : قد علمنا أن عمر يخالف ابن عباس في نكاح المتعة ، وبيع الدينار بالدينارين ، وبيع أمهات الأولاد ، فكيف يوافقه في شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ؟ عمر
فصل [ ] فتوى الصحابي على خلاف ما رواه
قال المانعون من لزوم الثلاث : النسخ لا يثبت بالاحتمال ، ولا ترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة راويه له ; فإن مخالفته ليست معصومة ، وقد قدم رواية الشافعي في شأن ابن عباس بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها ، وأخذ هو وغيرهما بحديث وأحمد { أبي هريرة } وقد خالفه من استقاء فعليه القضاء وأفتى بأنه لا قضاء عليه ، وأخذوا برواية أبو هريرة { ابن عباس } وصح عنه أنه قال : ليس الرمل بسنة ، وأخذوا برواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين في منع الحائض من الطواف ، وقد صح عنها أن امرأة حاضت وهي تطوف معها فأتمت بها عائشة عائشة بقية طوافها ، رواه : ثنا سعيد بن منصور أبو عوانة عن عن أبي بشر ، فذكره ، وأخذوا برواية عطاء في تقديم الرمي والحلق والنحر بعضها على بعض ، وأنه لا حرج في [ ص: 37 ] ذلك ، وقد أفتى ابن عباس أن فيه دما ، فلم يلتفتوا إلى قوله وأخذوا بروايته ، وأخذت الحنفية بحديث ابن عباس { ابن عباس } قالوا : وهذا صريح في طلاق المكره ، وقد صح عن كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه : ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق ، وأخذوا هم والناس بحديث ابن عباس أنه اشترى جملا شاردا بأصح سند يكون ، وأخذ الحنفية والحنابلة بحديث ابن عمر كرم الله وجهه علي { وابن عباس } وقد ثبت عن صلاة الوسطى صلاة العصر كرم الله وجهه علي أنها صلاة الصبح ، وأخذ الأئمة الأربعة وغيرهم بخبر وابن عباس عائشة في التحريم بلبن الفحل ، وقد صح عنها خلافه ، وأنه كان يدخل عليها من أرضعته بنات إخوتها ، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها ، وأخذ الحنفية برواية { عائشة } وصح عنها أنها أتمت الصلاة في السفر ، فلم يدعوا روايتها لرأيها ، واحتجوا بحديث فرضت الصلاة ركعتين ركعتين جابر وأبي موسى في الأمر بالوضوء من الضحك في الصلاة ، وقد صح عنهما أنهما قالا : لا وضوء من ذلك ، وأخذ الناس بحديث في ترك إيجاب الوضوء مما مست النار ، وقد صح عن عائشة بأصح إسناد إيجاب الوضوء للصلاة من أكل كل ما مست النار ، وأخذ الناس بأحاديث عائشة عائشة وابن عباس في المسح على الخفين ، وقد صح عن ثلاثتهم المنع من المسح جملة ; فأخذوا بروايتهم وتركوا رأيهم . وأبي هريرة
واحتجوا في إسقاط القصاص عن الأب بحديث { عمر } وقد قال لا يقتص لولد من والده : لأقصن للولد من الوالد ; فلم يأخذوا برأيه بل بروايته ، واحتجت الحنفية والمالكية في أن الخلع طلاق بحديثين لا يصحان عن عمر ، وقد صح عن ابن عباس بأصح إسناد يكون { ابن عباس أن الخلع فسخ لا طلاق } وأخذت الحنفية بحديث لا يصح بل هو من وضع حزام بن عثمان ومبشر بن عبيد الحلبي ، وهو حديث { جابر لا يكون صداق أقل من عشرة دراهم } وقد صح عن جواز جابر ، واحتجوا هم وغيرهم على المنع من بيع أمهات الأولاد بحديث النكاح بما قل أو كثر المرفوع ، وقد صح عنه جواز بيعهن ; فقدموا روايته التي لم تثبت على فتواه الصحيحة عنه ، وأخذت الحنابلة وغيرهم بخبر ابن عباس عن سعيد بن المسيب أنه ألحق الولد بأبوين ، وقد خالفه عمر ; فلم يعتدوا بخلافه ، وقد صح عن سعيد بن المسيب عمر وعثمان { ومعاوية } ، وصح عنهم النهي عن التمتع ، فأخذ الناس بروايتهم وتركوا رأيهم ، وأخذ الناس بحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج في البحر { أبي هريرة } وقد روى هو الطهور ماؤه الحل ميتته في سننه عن سعيد بن منصور أنه قال : ماءان لا يجزئان في غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام ، وأخذت الحنابلة والشافعية بحديث أبي هريرة في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ، وقد صح عن أبي هريرة ما رواه أبي هريرة في [ ص: 38 ] سننه أن سعيد بن منصور سئل عن الحوض يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار ، فقال : لا يحرم الماء شيء ، وأخذت الحنفية بحديث أبا هريرة كرم الله وجهه { علي لا زكاة فيما زاد على المائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما } مع ضعف الحديث بالحسن بن عمارة ، وقد صح عن كرم الله وجهه أن ما زاد على المائتين ففيه الزكاة بحسابه ، رواه علي عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عاصم بن ضمرة عنه .
وهذا باب يطول تتبعه ، وترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده وقد خالفه رواية يقول : الحجة فيما روى ، لا في قوله ، فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده والحديث بخلافه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه ، وإلا كان قدحا في عدالته ، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا ، بل قد رأينا في الباب الواحد ، وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين لله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا رواية ولا غيره ; إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ، أو لا يحضره وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة ، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا ، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ، ولو قدر انتفاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوما ، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته ، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك .