[ ] الصلح عن الدين ببعضه
المثال السادس والعشرون : إذا كان له عليه ألف درهم فأراد أن يصالحه على بعضها فلها ثمان صور ; فإنه إما يكون مقرا أو منكرا ، وعلى التقديرين فإما أن تكون حالة أو مؤجلة ، ثم الحلول والتأجيل إما أن يقع في المصالح عنه أو في المصالح به ، وإنما تتبين أحكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها .
الصورة الأولى : أن ; فهذا صلح على الإقرار ، وهو صحيح على أحد القولين ، باطل على القول الآخر ; فإن يصالحه عن ألف حالة قد أقر بها على خمسمائة حالة لا يصحح الصلح إلا على الإقرار ، الشافعي ومن وافقه من أصحاب الإمام والخرقي لا يصححه إلا على الإنكار ، أحمد وابن أبي موسى وغيره يصححونه على الإقرار والإنكار ، وهو ظاهر النص ، وهو الصحيح ; فالمبطلون له مع الإقرار يقولون : هو هضم للحق ; لأنه إذا أقر له فقد لزمه ما أقر به ، فإذا بذل له دونه فقد هضمه حقه ، بخلاف المنكر فإنه يقول : إنما افتديت يميني والدعوى علي بما بذلته ، والآخذ يقول : أخذت بعض حقي ، والمصححون له يقولون : إنما يمكن الصلح مع الإقرار لثبوت الحق به ; فتمكن المصالحة على بعضه ، وأما مع الإنكار فأي شيء ثبت حتى يصالح عليه ؟
فإن قلتم : " صالحه عن الدعوى واليمين وتوابعهما ، فإن هذا لا تجوز المعارضة عليه ، ولا هو مما يقابل بالأعواض ، فهذا أصل ، والصواب جواز الأمرين للنص والقياس والمصلحة ; فإن الله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم { } ، وأخبر أن : { أن المسلمين على شروطهم } ، وقول من منع الصلح على الإقرار : " إنه هضم للحق " ليس كذلك ، وإنما الهضم أن يقول : لا أقر لك حتى تهب لي كذا وتضع عني كذا وأما إذا أقر له ثم صالحه ببعض ما أقر به فأي هضم هناك ؟ الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
وقول من منع الصلح على الإنكار : " إنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه " فجوابه أنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة كما تفتدي المرأة نفسها من الزوج بما تبذله له ، وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع ، بل حكمة الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك .
فهاتان صورتان : صلح عن الدين الحال ببعضه حالا مع الإقرار ومع الإنكار .
[ ص: 278 ] الصورة الثالثة : أن يصالح عنه ببعضه مؤجلا مع الإقرار والإنكار ، فهاتان صورتان أيضا ، فإن كان مع الإنكار ثبت التأجيل ، ولم تكن له المطالبة به قبل الأجل ; لأنه لم يثبت له قبله دين حال فيقال : ، وهي في مذهب الإمام لا يقبل التأجيل ، وإن كان مع الإقرار ففيه ثلاثه أقوال للعلماء ، أحدها : لا يصح الإسقاط ولا التأجيل ، بناء على أن الصلح لا يصح مع الإقرار وعلى أن الحال لا يتأجل . والثاني : أنه يصح الإسقاط دون التأجيل ، بناء على صحة الصلح مع الإقرار . والثالث : أنه يصح الإسقاط والتأجيل ، وهو الصواب ، بناء على تأجيل القرض والعارية ، وهو مذهب أهل أحمد المدينة ، واختيار شيخنا .
، فحكمه ما تقدم . وتارة يصالحه ببعضه حالا مع الإقرار والإنكار ، فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال أيضا : أحدها : أنه لا يصح مطلقا ، وهو المشهور عن وإن كان الدين مؤجلا فتارة يصالحه على بعضه مؤجلا مع الإقرار والإنكار ; لأنه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالا ، وهو عين الربا ، وفي الإنكار المدعي يقول : هذه المائة الحالة عوض عن مائتين مؤجلة ، وذلك لا يجوز ، وهذا قول مالك . ابن عمر
والقول الثاني : أنه يجوز ، وهو قول ، وإحدى الروايتين عن الإمام ابن عباس حكاها أحمد ابن أبي موسى وغيره ، واختاره شيخنا ; لأن هذا عكس الربا ; فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كل واحد منهما ، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا ، فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا ، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : " إما أن تربي وإما أن تقضي " وبين قوله : عجل لي وأهب لك مائة ، فأين أحدهما من الآخر ؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح .
والقول الثالث : يجوز ذلك في دين الكتابة ، ولا يجوز في غيره ، وهو قول الشافعي . قالوا : لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، ولا ربا بين العبد وبين سيده ; فالمكاتب وكسبه للسيد ، فكأنه أخذ بعض كسبه وترك له بعضه ، ثم تناقضوا فقالوا : لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين ; لأنه في المعاملات معه كالأجنبي سواء . وأبي حنيفة
فيا لله العجب ، ما الذي جعله معه كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القن في الباب الآخر ؟ [ ص: 279 ] فهذه صورة هذه المسائل وأصولها ومذاهب العلماء فيها ، وقد تبين أن الصواب جوازها كلها ; فالحيلة على التوصل إليها حيلة على أمر جائز ليست على حرام .