[ بيع المغيبات في الأرض ] المثال السابع والستون : اختلف الفقهاء في جواز على قولين : أحدهما : المنع من بيعه كذلك ; لأنه مجهول غير مشاهد ، والورق لا يدل على باطنه ، بخلاف ظاهر الصبرة . بيع المغيبات في الأرض من البصل والثوم والجزر واللفت والفجل والقلقاس ، ونحوها
وعند أصحاب هذا القول لا يباع حتى يقلع ، والقول الثاني : يجوز بيعه كذلك ما جرت به عادة أصحاب الحقول .
وهذا قول أهل المدينة ، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام ، اختاره أحمد شيخنا ، وهو الصواب المقطوع به فإن في المنع من بيع ذلك حتى يقلع أعظم الضرر والحرج والمشقة مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة ; فإنه إن قلعه كله في وقت واحد تعرض للتلف والفساد .
وإن قيل : " كلما أردت بيع شيء منه فاقلعه " كان فيه من الحرج والعسر ما هو معلوم ، وإن قيل : " اتركه في الأرض حتى يفسد ، ولا تبعه فيها " فهذا لا تأتي به شريعة ، وبالجملة فالمفتون بهذا القول لو بلوا بذلك في حقولهم أو ما هو وقف عليهم ، ونحو ذلك لم يمكنهم إلا بيعه في الأرض ، ولا بد ، أو إتلافه وعدم الانتفاع به ، وقول القائل : " إن هذا غرر ومجهول " فهذا ليس حظ الفقيه ، ولا هو من شأنه ، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك .
فإن عدوه قمارا أو غررا فهم أعلم بذلك ، وإنما حظ الفقيه يحل كذا ; لأن الله أباحه ويحرم كذا ; لأن الله حرمه ، وقال الله وقال رسوله ، وقال الصحابة .
وأما أن يرى هذا خطرا وقمارا أو غررا فليس من شأنه بل أربابه أخبر بهذا منه ، والمرجع إليهم فيه ، كما يرجع [ ص: 5 ] إليهم في كون هذا الوصف عيبا أم لا ، وكون هذا البيع مربحا أم لا ، وكون هذه السلعة نافقة في وقت كذا وبلد كذا ، ونحو ذلك من الأوصاف الحسية ، والأمور العرفية ، فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في الأحكام الشرعية .
فإن بليت بمن يقول : هكذا في الكتاب ، وهكذا قالوا فالحيلة في الجواز أن تستأجر منه الأرض المشغولة بذلك مدة يعلم فراغه منها ، ويقر له إقرارا مشهودا له به أن ما في باطن الأرض له لا حق للمؤجر فيه ، ولكن عكس هذه الحيلة لو أصابته آفة لم يتمكن من وضع الجائحة عنه ، بخلاف ما إذا اشتراه بعد بدو صلاحه ، فإنه كالثمرة على رءوس الشجر إن أصابته آفة ، وضعت عنه الجائحة ، وهذا هو الصواب في المسألتين : جواز بيعه ، ووضع الجوائح فيه ، والله أعلم .