فصل :
[ ] القياس يعارض بعضه بعضا
قالوا : ولو كان القياس حجة لما تعارضت الأقيسة ، وناقض بعضها بعضا ، فترى كل واحد من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أن قوله هو القياس ، فيبدي منازعه قياسا آخر ويزعم أنه هو القياس ، وحجج الله وبيناته لا تتعارض ، ولا تتهافت .
قالوا : فلو جاز القول بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حذر الله منه ورسوله ، بل عامة إنما نشأ من جهة القياس ، فإنه إذا ظهر لكل واحد [ ص: 197 ] من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر اختلف ، ولا بد ، وهذا يدل على أنه من عند غير الله من ثلاثة أوجه : أحدها صريح قوله تعالى : { الاختلاف بين الأمة ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .
الثاني : أن الاختلاف سببه اشتباه الحق وخفاؤه ، وهذا لعدم العلم الذي يميز بين الحق والباطل .
الثالث : أن الله - سبحانه - ذم الاختلاف في كتابه ، ونهى عن التفرق والتنازع ، فقال : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } وقال : { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } والزبر : الكتب ، أي كل فرقة صنفوا كتبا أخذوا بها وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء ، وقال : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال : تبيض وجوه ابن عباس أهل السنة والائتلاف ، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { } وقال : { لا تختلفوا فتختلف قلوبكم } وكان التنازع والاختلاف أشد شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا رأى من الصحابة اختلافا يسيرا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنما فقئ فيه حب الرمان ويقول : " { اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا } ولم يكن أحد بعده أشد عليه الاختلاف من أبهذا أمرتم رضي الله عنه ، وأما عمر الصديق فصان الله خلافته عن الاختلاف المستقر في حكم واحد من أحكام الدين ، وأما خلافة فتنازع الصحابة تنازعا يسيرا في قليل من المسائل جدا ، وأقر بعضهم بعضا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن ، فلما كانت خلافة عمر عثمان اختلفوا في مسائل يسيرة صحب الاختلاف فيها بعض الكلام واللوم ، كما لام علي في أمر المتعة وغيرها ، ولامه عثمان عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات ، فلما أفضت الخلافة إلى - كرم الله وجهه - في الجنة صار الاختلاف بالسيف . علي
[ الاختلاف مهلكة ]
والمقصود أن الاختلاف مناف لما بعث الله به رسوله ، قال رضي الله عنه : لا تختلفوا ; فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا . ولما سمع عمر أبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال : رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفا ، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون ؟ لا أسمع اثنين اختلفا بعد [ ص: 198 ] مقامي هذا إلا صنعت وصنعت . وابن مسعود
وقال - كرم الله وجهه في الجنة - في خلافته لقضاته : اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الخلاف ، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي . علي
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم ، وقال أبو الدرداء وأنس : { وواثلة بن الأسقع محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار ، ثم قال : أبهذا أمرتم ؟ أو ليس عن هذا نهيتم ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا } وقال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في شيء من الدين ، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ، قال : ثم انتهرنا ، قال : يا أمة عن أبيه عن ابني عمرو بن شعيب العاص أنهما قالا : { يتراجعون في القدر ، فلما رأيناهم اعتزلناهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا يعرف في وجهه الغضب ، حتى وقف عليهم ، وقال : يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين ، فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم عائشة } . قال جلسنا مجلسا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أشد اغتباطا ، فإذا رجال عند حجرة : رأيت البخاري أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عن أبيه عن جده ، وقال عمرو بن شعيب : أجمع آل أحمد بن صالح عبد الله على أنها صحيفة عبد الله .
[ ليس أحد القياسين أولى من الآخر ]