( الفرق الثامن والثلاثون بين ) هذان النهيان على هذا التفسير ينقسمان ثلاثة أقسام القسم الأول أن يتضادا ويتنافيا كقوله [ ص: 210 ] لا تقتلوا قاعدة النهي الخاص وبين قاعدة النهي العام بني تميم لا تبقوا من رجالهم أحدا حيا فحكم هذا القسم أن يقدم الخاص على العام ويبتنى العام عليه فيقتل رجالهم دون غيرهم على القاعدة في تقديم الخاص على العام في النصوص المتعارضة وغيرها من الأدلة
القسم الثاني أن لا يتضادا ولا يكون لأحدهما مناسبة يختص بها دون الآخر كقوله تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } لا تقتلوا الرجال فهذان من قاعدة فإن جزء الشيء لا ينافيه وقيل على الشذوذ أنه يخصصه من طريق المفهوم فإن ذكر الرجال يقتضي مفهومه قتل غيرهم ذكر بعض العام الصحيح عند العلماء أنه لا يخصصه كان أمرا أو نهيا أو خبرا
القسم الثالث أن لا يتنافيا ويكون لأحدهما مناسبة تخصه في متعلقه وفيه ثلاث مسائل المسألة الأولى كقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } وقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فيضطر المحرم إلى أكل الميتة أو الصيد قال رضي الله عنه يأكل الميتة ويترك الصيد لأن كليهما وإن كان محرما إلا أن تحريم الصيد له مناسبة بالإحرام ومفسدته التي اعتمدها النهي إنما هي في الإحرام وأما مفسدة أكل الميتة فذلك أمر عام لا تعلق له بخصوص الإحرام والمناسب إذا كان لأمر عام وهو كونها ميتة لا يكون بينه وبين خصوص الإحرام منافاة ولا تعلق والمنافي الأخص أولى بالاجتناب ونظيره من العرفيات من هو عدو لقبيلتك أو ملتك وآخر عدو لك في نفسك دون غيرك فإن حذرك يكون من عدوك الخاص بك أشد ، واجتنابك له أكثر وأليق بك ، إن تسلطه عليك أعظم وأما عدو ملتك فإنه لا يلاحظ خصوصك في عداوته بل ربما مال إليك دون أهل ملتك لأمر يجده فيك دونهم وأما عدوك فلو ترك الناس كلهم ما تركك وكذلك غريم لا يطالب إلا أنت وغريم يطالب جماعة أنت منهم تجد في نفسك الملك من المطالب لك وحدك أشد وكذلك هذه المفاسد الشرعية الخاص منها يكون أشد اجتنابا ( المسألة الثانية ) مالك
إذا قال أصحابنا يصلي في الحرير ويترك [ ص: 211 ] النجس لأن مفسدة النجاسة خاصة بالصلاة بخلاف مفسدة الحرير لا تعلق لها بخصوص الصلاة ولا منافاة بينهما وإن كانت المفسدة والمنافاة حاصلة لكن لأمر عام يتعلق بحقيقة الحرير لا بخصوص الصلاة فإن قلت إذا كانت مفسدة الشيء تثبت في جميع الأحوال ومفسدة غيره لا تثبت إلا في حالة دل ذلك على أن اعتناء صاحب الشرع بما تعم مفسدته جميع الأحوال أقوى وأن المفسدة أعظم والقاعدة إذا لم يجد المصلي ما يستره إلا حريرا أو نجسا فإنا ندفع العليا بالتزام الدنيا كما نقطع اليد المتآكلة لبقاء النفس لأن مفسدتها أعظم وأشمل فكذلك هاهنا مفسدة الحرير أعظم وأشمل فكان اجتنابه أولى من اجتناب النجس قلت نسلم أن المفسدة إذا كانت أعظم وأشمل تكون أولى بالاجتناب لكن ذلك حيث تكون المفسدة لا تعلق لها بخصوص الحال بل هي في تلك الحقائق من حيث هي هي أما إذا كان لها تعلق بخصوص الحال فنمنع تقديم الأعم والأشمل عليها . تعارضت المفسدة الدنيا والمفسدة العليا
( المسألة الثالثة ) وقع في المذهب مسألة مشكلة وهي أن من فإن لربها تضمينه الدابة وإن ردها سالمة والغاصب إذا تعدى بالغصب في الدابة وردها سالمة لا يكون لربها تضمينه إجماعا وغاية هذا المتعدي أن يكون كالغاصب والغاصب إذا رد المغصوب لا يضمن فكذلك هذا المتعدي ورام بعض الفقهاء تخريج هذه المسألة على هذه القاعدة بأن قال استأجر دابة إلى بلد معين فتجاوز بها تلك البلدة متعديا نهي عام لا يختص بحالة ولا بعين دون عين وهاهنا في هذا المتعدي وجد نهي خاص بطريق اللزوم لأنه لما آجره إلى الغاية المعينة وحدد له الغاية فقد نهاه أن يجاوزها فالزائد على هذه الغاية فيه نهي يخصه ويتعلق بخصوص هذه الدابة دون غيرها وبهذه الغاية دون غيرها والقاعدة أن النهي الخاص بالحالة المعينة أقوى مما هو عام لا يتعلق بخصوص تلك الحالة فهذا فرق بين الغاصب والمتعدي فلا يلزم من عدم تضمين الغاصب مع الرد أن لا يضمن المتعدي مع الرد لقوة النهي في حقه ويرد عليه أسئلة أحدها أن القاعدة [ ص: 212 ] إنما هي في التعارض ولم يقع هاهنا تعارض فلم يجتمع نهي الغصب ونهي التعدي وقدم أحدهما على الآخر بل انفرد نهي المتعدي وحده في هذه الصورة وثانيها أن النهي الخاص هاهنا نهي آدمي والنهي العام نهي الله تعالى فلا يرجح نهي الآدمي لخصوصه على نهي الله تعالى مع عمومه بل لا اعتبار بنهي العبد أصلا وإنما تنبني الشرائع على نهي الله تعالى وأمره . النهي عن الغصب
فإن قلت إذا نهي العبد عن الانتفاع بملكه في غاية معينة أو في حالة معينة فإن نهي الله يصحبه في تلك الغاية وفي تلك الحالة فنحن في الحقيقة إنما رجحنا بين نهيين لله تعالى أحدهما خاص والآخر عام قلت هذا كلام صحيح ولكن النهي الذي صحب نهي العبد هاهنا هو نهي عام وهو نهي الغصب بعينه فإن الله تعالى حرم الانتفاع بالأملاك والأموال إلا برضا أربابها فأي حالة لم يوجد فيها الرضا يكون ذلك النهي متحققا فيكون نهي الله تعالى بعد الغاية هو ذلك النهي العام الذي استثني منه حالة الرضا دون غيرها وهذا هو عين نهي الغصب الذي هو النهي العام وهذه صورة من صوره وهو المصرح به في قوله عليه السلام { } واستثنى حالة الطيب عن النهي العام وبقي ما عدا حالة طيب النفس مندرجا تحت النهي العام وهو بعينه نهي الغصب فظهر أن التخيل الذي قاله من تعارض نهيين شرعيين باطل وثالثها إذا قسنا ترك الضمان في هذه الصورة على ترك الضمان في صورة الغصب كان القياس صحيحا سالما عن المعارض ولو قسنا هنالك الحرير على الجنس أو الميتة على الصيد فترك الجميع أدى ذلك إلى هلاك المحرم بالجوع وبقاء المصلي عريانا وهذه مفسدة تعارضنا في قياسنا وتمنع منه فكيف نسوي بين موضع لا معارض للقياس فيه وبين موضع للقياس فيه معارض أقوى منه أو قادح فيه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه
.