( الفرق الثاني والستون بين قاعدة وبين ما إذا لم يخرج مخرج الغالب ) المفهوم إذا خرج مخرج الغالب
فإنه إن لم يخرج مخرج الغالب كان حجة عند القائلين بالمفهوم وإذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة إجماعا وضابطه أن يكون الوصف الذي وقع به التقييد غالبا على تلك الحقيقة وموجودا معها في أكثر صورها فإذا لم يكن موجودا معها في أكثر صورها فهو المفهوم الذي هو حجة ، وسر الفرق بينهما أن الوصف إذا كان غالبا على الحقيقة يصير بينها وبينه لزوم في الذهن فإذا استحضر المتكلم الحقيقة ليحكم عليها حضر معها ذلك الوصف الغالب ؛ لأنه من لوازمها فإذا حضر في ذهنه نطق به ؛ لأنه حاضر في ذهنه فعبر عن جميع ما وجده في ذهنه لا أنه قصد بالنطق به نفي الحكم عن صورة [ ص: 39 ] عدمه بل الحال تضطره للنطق به أما إذا لم يكن غالبا على الحقيقة لا يلزمها في الذهن فلا يلزم من استحضار الحقيقة المحكوم عليها حضوره فيكون المتكلم حينئذ له غرض في النطق به وإحضاره مع الحقيقة ولم يكن مضطرا لذلك بسبب الحضور في الذهن ، وإذا كان له غرض فيه وسلب الحكم عن المسكوت عنه يصلح أن يكون غرضه فحملناه عليه حتى لا يصرح بخلافه ؛ لأنه المتبادر للذهن من التقييد وهذا هو الفرق بين القاعدتين وسر انعقاد الإجماع على عدم اعتباره وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الشافعية رحمه الله يورد على هذا سؤالا فيقول الوصف الغالب أولى أن يكون حجة مما ليس بغالب .
وما انعقد عليه الإجماع يقتضي الحال فيه العكس بسبب أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب وكانت العادة شاهدة بثبوت ذلك الوصف لتلك الحقيقة يكون المتكلم مستغنيا عن ذكره للسامع بدليل أن العادة كافية في إفهام السامع ذلك فلو أخبره بثبوت ذلك الوصف لكان ذلك تحصيلا للحاصل أما إذا لم يكن غالبا فإنه لا دليل على ثبوته لتلك الحقيقة من جهة العادة فيتجه أن المتكلم بخبره به لعدم دليل يدل على ثبوته لتلك الحقيقة وهو حينئذ يفيده فائدة جديدة وغير مفيد له في الوصف الغالب الذي دلت عليه العادة ، وإذا كان في الغالب غير مفيد بإخباره عن ثبوته للحقيقة فيتعين أنه إنما نطق به لقصد آخر غير الإخبار عن ثبوته للحقيقة وهو سلب الحكم عن المسكوت عنه وهذا الغرض لا يتعين إذا لم يكن غالبا ؛ لأنه غرضه حينئذ يكون الإخبار عن ثبوته للحقيقة لا سلب الحكم عن المسكوت عنه فظهر أن الوصف الغالب على الحقيقة أولى أن يكون حجة [ ص: 40 ] وهو سؤال حسن متجه غير أنه عارضنا فيه ما تقدم من تقدير كونه حجة وهو أنه اضطر للنطق به بخلاف غير الغالب وأورد لك ثلاث مسائل توضح لك القاعدتين والفرق بينهما .
( المسألة الأولى ) قوله عليه السلام { } أو { في الغنم السائمة الزكاة زكوا عن الغنم السائمة } استدل به الشافعية على عدم وجوب ولا دليل فيه لوجهين الأول أنه خرج مخرج الغالب فيكون من المفهوم الذي ليس حجة إجماعا ؛ لأن السوم يغلب على الغنم في أقطار الدنيا لا سيما في الزكاة في المعلوفة الحجاز لعزة العلف هنالك والاستدلال بما ليس حجة إجماعا لا يستقيم الثاني أن هذا مفهوم وإن سلم أنه حجة فهو معارض بالمنطوق وهو قوله عليه السلام { } فهذا الاستدلال باطل . في كل أربعين شاة شاة
( المسألة الثانية ) قوله عليه السلام { فنكاحها باطل أنكحت نفسها بغير إذن وليها } مفهومه أنه إذا أذن لها وليها صح نكاحها وهذا المفهوم ملغي بسبب أن الغالب أنها لا تنكح نفسها في مجرى العادة إلا ووليها غير آذن بل غير عالم فصار عدم إذن الولي غالبا في العادة على تزويجها لنفسها فالتقييد به تقييد بما هو غالب فلا يكون حجة . أيما امرأة
( المسألة الثالثة ) قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ومفهومه أنكم إذا لم تخشوا الإملاق لا يحرم عليكم القتل وهو مفهوم ملغي إجماعا بسبب أنه قد غلب في العادة أن الإنسان لا يقتل ولده إلا لضرورة وأمر قاهر ؛ لأن حنة الأبوة مانعة من قتله فتقييد القتل بخشية الإملاق تقييد له بوصف هو كان الغالب عليهم في القتل في ذلك الوقت فكانوا لا يقتلون إلا خوف الفقر أو الفضيحة في البنات وهو الوأد الذي صرح به في الكتاب العزيز في قوله { وإذا الموءودة سئلت } والوأد الثقل فإنهم كانوا يدفنونهن أحياء فيمتن من غم التراب وثقله ، ومنه قوله تعالى { ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم } أي لا يثقله وعلى هذا القانون اعتبر المفهوم الغالب من غيره