اعلم أن المبتدأ يجب انحصاره في خبره مطلقا كان معرفة أو نكرة بسبب أن خبر المبتدأ لا يجوز أن يكون أخص بل مساويا أو أعم فالمساوي نحو : الإنسان ناطق ، والأعم نحو : الإنسان حيوان ، والعشرة عدد أو زوج هذا شأن الخبر ولو قلت الحيوان إنسان أو العدد عشرة لم يصح والمبتدأ على هذا يجب أن يكون مساويا إن كان الخبر مساويا أو أخص إن كان الخبر أعم [ ص: 42 ] وإذا وجب للمبتدأ أن يكون مساويا أو أخص في جميع الصور كان الحصر لازما في جميع الصور ؛ لأن المساوي منحصر في مساويه والأخص منحصر في الأعم فالإنسان كما هو منحصر في الناطق منحصر في الحيوان فلا يوجد في غيره فهذا برهان عقلي قطعي في وجوب انحصار المبتدأ في خبره ومع ذلك فقد فرق العلماء بين قولنا زيد قائم لم يجعلوه للحصر وبين قولنا زيد القائم فجعلوه للحصر فكيف صح من العلماء مخالفة الدليل القاطع في المبتدأ إذا كان خبره نكرة .
والجواب عن هذا السؤال أن الحصر حصران حصر يقتضي نفي النقيض فقط وحصر يقتضي نفي النقيض والضد والخلاف وما عدا ذلك الوصف على الإطلاق فهذا الحصر الثاني هو الذي نفاه العلماء عن الخبر إذا كان نكرة ، وأما الحصر الأول فلم يتعرضوا له .
وبيان ذلك أنك إذا قلت : زيد قائم فزيد منحصر في مفهوم قائم لا يخرج عنه إلى نقيضه لكن قولنا قائم مطلق في القيام فهي موجبة جزئية في وقت واحد فنقيضه إنما هو السالبة الدائمة وهو أن لا يكون زيد قائما دائما لا في الماضي ولا في الحال ولا في الاستقبال ومعلوم أن هذا النقيض منفي إذا صدق قولنا زيد قائم في وقت كذا فكذلك جميع الأخبار التي هي نكرات فالحصر ثابت بحسب النقيض لا بحسب غيره فإذا صدق مفهوم الحصر باعتبار النقيض صدق الخبر ولم يخالف الدليل العقلي [ ص: 43 ] ولا يلزم من عدم الاتصاف بالنقيض عدم الاتصاف بالضد والخلاف فجاز أن يكون مع كونه قائما جالسا في وقت آخر ونحوه ومن الأضداد وحيا وفقيها وعابدا في جميع الأوقات وكذلك كل وصف هو خلاف أو ضد فجميع ذلك يجوز ثبوته .
وأما النقيض فلا سبيل للاتصاف به ألبتة فالحصر باعتباره لا باعتبار غيره هذا في النكرات وأما غير النكرات فأذكر فيه سبع مسائل توضحه وتبين الفرق .
( المسألة الأولى ) قوله عليه السلام في الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم استدل به العلماء على انحصار سبب تحريمها في التكبير وسبب تحليلها في التسليم فلا يدخل في حرمات الصلاة إلا بالتكبير ولا يخرج من حرماتها إلى حلها إلا بالتسليم فهذا خبر معرف بالألف واللام اقتضى الحصر في التكبير دون نقيضه الذي هو عدم التكبير وضده الذي هو الهزل واللعب والنوم والجنون وخلافه الذي هو الخشوع والتعظيم ، فأي شيء فعل من هذه الأضداد والخلافات ولم يفعل التكبير لم يدخل في حرمات الصلاة وكذلك تحليلها التسليم يقتضي الحصر في التسليم دون نقيضه الذي هو عدم التسليم وضده الذي هو النوم والإغماء وخلافه الذي هو الحدث وغير ذلك من التعظيم والإجلال وغيرهما فلا يخرج من حل الصلاة إلى حرماتها إلا بالتسليم فقط .
ونعني بالحرمات تحريم الكلام والأكل والشرب وغير ذلك مما يحرم في الصلاة ونعني بحلها إباحة جميع ما حرم بالصلاة فإن قلت فهو يخرج من الصلاة بالضد الذي هو النوم والجنون والإغماء وبالخلاف الذي هو الحدث ونعني بالضد ما لا يمكن اجتماعه معه وبالخلاف ما يمكن اجتماعه معه قلت ليس مرادنا إلى حلها بطلان الصلاة كيف كان إنما مرادنا بذلك الخروج على وجه الإباحة الشرعية والخروج [ ص: 44 ] عن العهدة فمن أراد أن يخرج على هذا الوجه فلا سبب له إلا السلام المشروع والخروج على غير هذا الوجه ليس مرادنا فإن قلت السلام إذا وقع في أثناء الصلاة يخرج من حرماتها ومع ذلك فلا إباحة ولا براءة ذمة قلت إنما أخرج السلام من حرمات الصلاة في أثنائها ؛ لأنه كلام ليس بمشروع كما لو تكلم في أثناء الصلاة فهو كسبق الحدث وغيره ومن المبطلات وإخراجه في أثناء الصلاة ليس من باب إخراجه في آخر الصلاة والحصر إنما تعرض له صاحب الشرع من الوجه الثاني دون الأول فاندفع السؤال ، وهذا الجواب على مذهب بالخروج من حرمات الصلاة ابن نافع من أصحابنا فإنه يرى أن السلام على وجه السهو لا يبطل الصلاة ولا يحتاج في الرجوع إلى تكبير وهو مذهب فجعل الشافعي كالكلام في أثناء الصلاة والكلام على وجه السهو في أثناء الصلاة لا يبطلها ، وكذلك السلام سهوا وهذا هو الذي يتجه ومن جهة النظر . السلام في أثناء الصلاة
وأما الحديث فإنه أريد به السلام المأذون فيه في آخر الصلاة أما فلم يرد ولا يفهم من قوله عليه السلام مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم إلا التكبير الأول المشروع سببا للدخول في الصلاة والسلام الذي هو في آخرها المشروع سببا في الخروج منها لا سيما ولفظ السلام خبر معناه الدعاء بالسلامة والدعاء لا يقدح في الصلاة لا سهوا ولا عمدا فالقول بكونه إذا وقع في أثناء الصلاة محوج لتكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة وأنه مخرج منها مطلقا مشكل فإن قلت النية المقترنة به تقتضي رفض الصلاة ورفض الصلاة يقتضي إبطالها فذلك أحوج للتكبير ولأن جنسه مبطل للصلاة إجماعا وقع في أجزائها ويلحق بذلك الفرد بقية صوره بالقياس أو نقول اللام فيه للعموم فيشمل صورة النزاع . سهو السلام وعمده في أثناء الصلاة
قلت السلام قد يقع مع نية الخروج من الصلاة وقد لا يقع فإن المذهب على قولين في اشتراط النية فيه فإن لم تكن معه نية فلا كلام وإن وقعت فليست رفضا ؛ لأن الرفض هو قصد إبطال الصلاة ولم يقصد إبطالها إنما اعتقد أن صلاته كملت فأتى بنية الخروج من الصلاة وهذا ليس رفضا وعن الثاني أن السلام كونه مخرجا من الصلاة غير معقول المعنى ولا يناسب لفظ هو دعاء الخروج من الصلاة وإنما يناسب في ذلك ما ينافيها والدعاء لا ينافي الصلاة فإذا لم يكن معقول المعنى امتنع القياس ؛ لأن القياس بلا جامع لا يصح فإن قلت هو قياس الشبه لا قياس المعنى قلت قياس الشبه ضعيف وقد منع القاضي شيخ الأصوليين أنه حجة سلمنا صحته لكن الفرق أنه في أثناء الصلاة معارض فالمقتضى لا كمال الصلاة الذي يقتضي المداومة عليها وفي آخر الصلاة وهو سالم عن هذا المعارض فافترقا ، .
وأما التمسك بالعموم فالجواب عنه أن قرينة السياق تدل على أن اللام ههنا إنما أريد بها حقيقة الجنس الذي هو القدر المشترك لا العموم ؛ لأن ما ذكر معه من الطهور المحلى باللام إنما أريد به الفرد المقارن للأول فقط [ ص: 45 ] فكذلك التكبير لا يدخل فيه إلا بالمقارن الأول والذي في أثناء الصلاة منه لا يدخل به في حرمات الصلاة فكذلك يحمل السلام على المقارن لآخر الصلاة تسوية بينه وبين ما قرن معه ولأنه المتبادر للذهن ولو كان السلام في أثناء الصلاة يحوج للتكبير ويخرج من حرمات الصلاة لبطل ما مضى من الصلاة وابتدئت من أولها ولم يقل به في السهو ألبتة فلما لم تعد الصلاة من أولها دل على أن المصلي في حرمات الصلاة وبالجملة فما أجد مشهور مذهب مالك في أن السلام سهوا محوج للتكبير إلا مشكلا والمتجه مذهب مالك . الشافعي
( المسألة الثانية ) قوله عليه السلام ذكاة الجنين ذكاة أمه يقتضي حصر في ذكاة أمه فلا يحوج إلى ذكاة أخرى ومعنى الكلام أن ذكاة الجنين تغني عنها ذكاة أمه فإن قلت فذكاة الجنين هي الذبح الخاص في حلقه هذا هو الحقيقة اللغوية فجعل هذه الذكاة عين ذكاة أمه إنما يصدق حينئذ على سبيل المجاز كقولنا ذكاة الجنين أبو يوسف والأصل عدم المجاز وهو خلاف الظاهر فكيف يقال : إن هذا اللفظ بوضعه يقتضي أن عين ذكاة الجنين هي عين ذكاة أمه ؟ أبو حنيفة
قلت : سؤال حسن والجواب عنه يحتاج إلى جودة ذهن وفكر في فهمه بسبب النظر في قاعدة وهي أن إضافة المصادر مخالفة لإسناد الأفعال فالإضافة تكفي فيها أدنى ملابسة ويكون ذلك حقيقة لغوية كقولنا صوم رمضان وحج البيت فنضيف الصوم لرمضان والحج للبيت فتكون إضافة حقيقة ولو أسندنا الفعل فقلنا صام رمضان بأن يجعل الشهر هو الفاعل أو البيت يحج لم يصدق ذلك حقيقة وينفر منه سمع السامع فكذلك ينبغي هاهنا أن يفرق بين ذكيت الجنين وبين ذكاة الجنين فذكيت الجنين لا يصدق إلا إذا قطع منه موضع الذكاة وذكاة [ ص: 46 ] الجنين تصدق بأيسر ملابسة ، وأحد طرق الملابسة أن ذكاة أمه تبيحه فمن هذا الوجه صار بينه وبين ذكاة أمه ملابسة تصدق أنها ذكاته فيكون على التقدير ذكاة أمه هي عين ذكاته حقيقة لا مجازا وهذا هو مقتضى قول النحاة عن العرب فإنهم قالوا يكفي في الإضافة أدنى ملابسة كقول أحد حاملي الخشبة للآخر شل طرفك فجعل طرف الخشبة طرفا له بسبب الملابسة وأنشدوا :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
فأضاف الكوكب إليها ؛ لأنها كانت تقوم لشغلها عند طلوعه وإذا استقريت ذلك وجدته كثيرا على وجه الحقيقة فصح ما ذكرنا من إضافة الذكاة للجنين وأن الحديث يقتضي الحصر واستغنى الجنين عن الذكاة بسبب ذكاة أمه .واعلم أن هذا الحديث يروى بالرفع في الذكاة الثانية وبالنصب فتمسك المالكية والشافعية براوية الرفع على استغناء الجنين عن الذكاة وتمسك الحنفية برواية النصب على احتياجه للذكاة وأنه لا يؤكل بذكاة أمه والتقدير عندهم ذكاة الجنين أن يذكى ذكاة مثل ذكاة أمه فحذف المضاف مع بقية الكلام وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب كإعرابه وهو القاعدة في حذف المضاف .
والجواب عما تمسك به الحنفية من هذه الرواية أن هاهنا تقديرا آخر وهو أن يكون التقدير ذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه فحذف حرف الجر فانتصبت الذكاة على أنها مفعول كقولك دخلت الدار ويكون المحذوف أقل مما قدره الحنفية ويكون في هذا التقدير جمع بين الروايتين فيكون أولى من التعارض والتنافي بينهما فيرجح بقلة المحذوف والجمع لا يبقى لهم فيه مستند على الروايتين ويكون حجة عليهم [ ص: 47 ]
( المسألة الثالثة ) قوله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم يقتضي حصر الشفعة الذي هو قابل للقسمة ولم يقسم بعد والخبر هاهنا ليس معرفة بل مجرورا وتقدير الخبر الشفعة مستحقة فيما لم يقسم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { } يقتضي حصر الأعمال المعتبرة في النيات وتقدير الكلام الأعمال معتبرة بالنيات الأعمال بالنيات لا يعتبر شرعا كما أن فالعمل بغير نية لا يعتبر شرعا . طلب الشفعة فيما لا يقبل القسمة
( المسألة الرابعة ) قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } تقديره زمان الحج أشهر معلومات فيكون محصورا في هذه الأشهر وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة وهو الميقات الزماني وهل هذا الحصر باعتبار الأجزاء وهو مذهب وقت الحج فلا يحرم بالحج قبله أو باعتبار الفضيلة وهو مذهب الشافعي فيكره الإحرام قبله فإن وقع صح قولان . مالك
( المسألة الخامسة ) قال الغزالي إذا قلت صديقي زيد أو زيد صديقي اختلف الحكم في زيد فالأول يقتضي حصر أصدقائك في زيد فلا تصادق أنت غيره وهو يجوز أن يصادق غيرك والثاني يقتضي حصره في صداقتك فلا يجوز أن يصادق غيرك وأنت يجوز أن تصادق غيره على عكس الأول .
( المسألة السادسة ) قال الإمام فخر الدين في كتاب الإعجاز له الألف واللام قد ترد لحصر الثاني في الأول كقولك زيد القائم أي لا قائم إلا زيد فيحصر وصف القيام وكذلك إذا قلت : الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الخلافة بعده عليه السلام منحصرة في أبي بكر ومنه زيد الناقل لهذا الخبر والمتسبب في هذه القضية فالثاني أبدا منحصر في الأول بخلاف قاعدة الحصر أبدا الأول منحصر في الثاني . أبو بكر الصديق
( المسألة السابعة ) إذا قلت السفر يوم الجمعة فهم منه الحصر في هذا الظرف وأنه لا يقع في يوم الخميس ولا في غيره من الأيام وكذلك هذا النوع من الخبر فقد اتضح لك الحصر للمبتدأ في خبره مع التعريف والظرف والمجرور بخلاف قولنا زيد قائم وعمرو خارج .