فصل [فيما يحل من ذبائح أهل الكتاب]
تحل بثلاثة شروط: أن يكون المذكى ملكا لهم، ومما يجوز لهم أكله، ولم يهلوا به لغير الله. ذبائح أهل الكتاب
واختلف في ذكاتهم ما هو ملك لمسلم، وقد تقدم الكلام عليه، وفي ذبائحهم للصليب ولعيدهم وللكنيسة، وفي ذكاة اليهود كل ذي ظفر، وفيما وجدوه فاسدا عندهم، وفي شحومهم.
فقال فيما أهل به لغير الله، فذبحوه لأعيادهم أو كنائسهم، قال في كتاب مالك محمد : أو لعيسى أو لميكائيل يكره، ولا أحرمه .
قال : وما ذبح للصليب بمنزلة ما ذبح للكنيسة لا بأس به . ابن حبيب
وعلى هذا يجوز ما ذبح لعيسى أو لميكائيل أو للصليب. وقال فيما ذبح لأيام يسمي عليها مثل ابن شهاب أبي قرقس حلال، لا بأس به.
قال: وقد أحل الله تعالى طعام الذين أوتوا الكتاب، وقد علم أنهم يذكرون مثل ذلك، وكره ذلك ; لقول الله سبحانه: مالك وما أهل لغير [ ص: 1536 ] الله به [النحل: 115]; خيفة أن يكون مرادا بالآية، ولم يحرمه لعموم قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [المائدة: 5] ، وأن يكون المراد: غير الكتابي. والصحيح: أنه حلال. والمراد فيما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب: الأصنام، وهي ذبائح المشركين. قال في ثمانية أصبغ أبي زيد : وما ذبح على النصب : هي الأصنام التي كانوا يعبدون في الجاهلية. قال: وأهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام . وفي ، قال البخاري زيد بن عمرو بن نفيل : أنا لا آكل ما تذبحون لأنصابكم . يعني: الأصنام.
وأما ما ذبحه أهل الكتاب، فلا يراعى ذلك فيهم، وقد جعل الله سبحانه لهم حرمة، فأجاز مناكحتهم وذبائحهم لتعلقهم بشيء من الحق، وهو الكتاب الذي أنزل عليهم، وإن كانوا كافرين. ولو كان يحرم ما ذبح باسم المسيح; بل لا يجوز، وإن أخبر أنه لم يسم المسيح; لأنه غير صادق. وإذا لم يجب ذلك; حلت ذبائحهم كيف كانت . لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم، إلا أن يسأل هل سمي المسيح ، أو ذبح للكنيسة،
واختلف عن فيما وجده اليهود من ذبائحهم فاسدا لأجل الرئة، وهي التي يسمونها الطريف، بالإجازة والكراهة. فقال مرة: كل ما حرموه [ ص: 1537 ] على أنفسهم فليس بحرام في كتاب فلا بأس بأكله ثم كرهه وثبت على الكراهة، ولم يحرمه ، فكره ذلك لقول الله سبحانه: مالك وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [المائدة: 5] ، وهذا ليس من طعامهم. وأجازه; لأن المراد من طعامهم: ذبائحهم. ولأن هذا قصد الذكاة والذبح. وقوله في ثاني حال: إن كانت على صفة كذا; لا آكلها، لا يرفع ما تقدم من الذكاة.
واختلف في الشحوم; فقال في كتاب محمد : هي محرمة، وقال في المبسوط: لا بأس به . وقاله ابن نافع . وقال : لا يعجبني أكله، ولا أحرمه . وحكى ابن القاسم ابن القصار عن ابن القاسم أنها محرمة. واختلف في تذكيتهم كل ذي ظفر نحو الاختلاف في الشحوم، فقيل: ليس بذكي، وهو حرام. وقيل: يكره. وقيل: جائز. وقيل: يجوز الشحم; لأن الذكاة لا تتبعض. ولا يجوز هذا. وقال وأشهب في قول الله -عز وجل-: أصبغ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما . . . الآية [الأنعام: 146] ، فقال : قال : كل ما كان محرما بكتاب الله سبحانه; فلا يأكله المسلم من ذبائحهم. ولا بأس بما [ ص: 1538 ] حرموه على أنفسهم. وقال أشهب : لا يؤكل هذا ولا هذا. وقال ابن القاسم : يؤكل ما حرمه الله -عز وجل- عليهم، وما حرموه على أنفسهم. وهو قول ابن وهب محمد بن عبد الحكم . قال: إنما أخبر الله سبحانه عما حرم عليهم في التوراة، وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحليل ذلك. واحتج من نصر القول الأول بقول الله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وهو ما أحل لهم قبل ذلك. وقال ابن الجهم : المعنى ذبائحهم.
قال الشيخ - رضي الله عنه - : مضمون الآية: الإخبار عما كان محرما في التوراة، وقد نسخ ذلك بما خوطبوا به من الدخول في شرعنا، إلا أنهم معتقدون أن ذلك التحريم باق، وأن هذه الذكاة ليست بذكاة. وإلى هذا ذهب أنها ذكاة بغير نية. فسواء كان ذلك المذكى ملكا لهم، أو لمسلم وكلهم على ذبحه. ورأى ابن القاسم أن ذلك ذكاة; لأنه نوى الذكاة، وإن كانت عنده فاسدة . ابن وهب
ويختلف على هذا لو وكل رجل رجلا على أن يذبح له بعيرا أو أن ينحر له شاة، والآمر يعتقد أن تلك ذكاة، والمأمور لا يعتقد ذلك، فلا يكون ذكيا على [ ص: 1539 ] قول . وهو ذكي على قول ابن القاسم ; لأنه نوى الذكاة لمن وكله، واعتقاده أنها ذكاة فاسدة ليس إليه. ففارق بهذا من رمى شاة بحديدة فذبحها، ولم يرد ذبحها. ويختلف على هذا، لو ذبح إنسان شاة اقتداء بما رأى الناس عليه من ذلك، وهو لا يعلم أن ذلك شرع، ولا أنها لا تؤكل إلا بذلك. ابن وهب
وأما الشحوم; فالأمر فيها أشكل، فيصح أن يقال: إنها محرمة، وأن الذكاة تتبعض كما قال : إنها تتبعض في شرعنا، فلا تنفع في الدم، وتنفع فيما سواه. ويصح أن يقال: إنها تنفع في الشحم; لأن التبعيض في ذلك لله سبحانه، فإذا نسخ ذلك من شرعهم، وكانت النية للذكاة موجودة منهم، وصحت; كانت للجميع; لأن التبعيض منهم لا يصح، بخلاف ما لا يعتقدون ذكاته جملة. ويؤيد ذلك حديث محمد بن مسلمة - رضي الله عنه -، قال: عبد الله بن مغفل أخرجه أصبت جراب شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسما. البخاري . [ ص: 1540 ] ومسلم