ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى : والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لكان كافيا إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن ، آحادها وأشد منه قوله تعالى : فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين : وقوله تعالى : ليسأل الصادقين عن صدقهم وقوله تعالى : سنفرغ لكم أيه الثقلان ، وقوله : عز وجل أفأمنوا مكر الله الآية ، وقوله: : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، وقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، الآيتين ، وقوله تعالى : وإن منكم إلا واردها ، الآية ، وقوله : اعملوا ما شئتم الآية ، وقوله : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية
قوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآيتين .
وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل الآية
وكذلك قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلى آخر السورة ، فهذه أربعة شروط للخلاص من الخسران وإنما كان لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى ، خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون حتى روي أن النبي ، وجبريل ، عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفا من الله ، تعالى فأوحى الله إليهما : لم تبكيان وقد أمنتكما ؟! فقالا : ومن يأمن مكرك ؟! .
وكأنهما إذ علما أن وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور ، ولم يأمنا أن يكون قوله : قد أمنتكما ابتلاء وامتحانا لهما ومكرا بهما ، حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر ، وما وفيا بقولهما . الله هو علام الغيوب ،
كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال : حسبي الله ، وكانت هذه من الدعوات العظام ، فامتحن ، وعورض بجبريل في الهواء ، حتى قال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا فكان ذلك وفاء بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال : وإبراهيم الذي وفى أي بموجب قوله : حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال : إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة ؛ ؛ إذ لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له : لا تخف إنك أنت الأعلى ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه : دع عنك مناشدتك ربك فإنه واف لك بما وعدك أبو بكر فكان مقام اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك ، فقال رضي الله عنه مقام الصديق وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الثقة بوعد الله ، وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى ، وخفايا أفعاله ، ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر ، وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ، ومن عرف حقيقة المعرفة ، وقصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة ؛ ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له : مقام الخوف من مكر الله ؛ أأنت قلت : للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك .
وقال: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ، الآية .فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس : ولا حدس ولا حسبان فضلا عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلكك فقد أهلك أمثالك ممن لا يحصى ، ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ، ويمرض من ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق ، ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ، ثم يخبر عنه ويقول : وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وقال تعالى : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم ، الآية .فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ، ولا يطمع في تداركه ، ولو كان الأمر آنفا لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة ، فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه واستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح ، فمن يسرت له أسباب الشر ، وحيل بينه وبين أسباب الخير ، وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة ؛ إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات كلها ميسرة ، والقلب بالكلية عن الدنيا ، منقطعا وبظاهره وباطنه على الله مقبلا ، كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقا به ، ولكن خطر الخاتمة ، وعسر الثبات ، يزيد نيران الخوف ، إشعالا ولا يمكنها من الانطفاء ، وكيف يؤمن تغير الحال ، وإن القلب أشد تقلبا من القدر في غليانها وقد قال : مقلب القلوب عز وجل وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ؟! إن عذاب ربهم غير مأمون ، فأجهل الناس من أمنه ، وهو ينادي بالتحذير من الأمن ولو أن الله لطف بعباده العارفين ؛ إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف .
فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس ، وتقطعت القلوب ، من خوف تقلب القلوب .
قال بعض العارفين : لو حالت بيني وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب .
وقال بعضهم : لو كانت الشهادة على باب الدار ، والموت على الإسلام عند باب الحجرة ، لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار .
وكان يحلف بالله ما أحد آمن على إيمانه أن يسلبه عن الموت إلا سلبه . أبو الدرداء
وكان سهل يقول : خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطوة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال : وقلوبهم وجلة .
ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع ، فقيل له : يا أبا عبد الله عليك بالرجاء ، فإن عفو الله أعظم من ذنوبك ، فقال : : أوعلى ذنوبي أبكي ؟! لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا .
وحكي عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال: إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزا وسكرا وانثره على صبيان أهل البلد ، وقل هذا عرس المنفلت وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الوفاة
فقال وبم أعلم ذلك ؟ فذكر له علامة فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز وفرقه .