بيان . الرد على من قال : ترك التداوي أفضل بكل حال
فلو قال قائل : إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسن لغيره وإلا فهو حال الضعفاء ، ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء فيقال ينبغي أن يكون من شروط . التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبيغ الدم
فإن قيل : إن ذلك أيضا شرط فليكن من شرطه أن تلدغه العقرب ، أو الحية فلا ينحيها عن نفسه إذ الدم يلدغ الباطن ، والعقرب تلدغ الظاهر ، فأي فرق بينهما ، فإن قال ، وذلك أيضا شرط التوكل فيقال : ينبغي أن لا يزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز ، ولدغ البرد بالجبة ، وهذا لا قائل به .
ولا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنته ، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن رضي الله عنه : وعن الصحابة في قصة الطاعون فإنهم لما قصدوا عمر الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتا عظيما ووباء ذريعا ، فافترق الناس فرقتين فقال بعضهم : لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فرجعوا إلى فسألوه عن رأيه فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون في رأيه : أنفر من قدر الله تعالى ؟ قال عمر نعم : نفر من قدر الله إلى قدر الله ، ثم ضرب لهم مثلا فقال : أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط واديا له شعبتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى ، وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى ؟ فقالوا : نعم ، ثم طلب عمر ليسأله عن رأيه وكان غائبا ، فلما أصبحوا جاء . عبد الرحمن بن عوف
عبد الرحمن فسأله عن ذلك فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : الله أكبر ، فقال عمر عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : . إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
ففرح بذلك وحمد الله تعالى ؛ إذ وافق رأيه ورجع من عمر الجابية بالناس فإذا كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل ، وهو من أعلى المقامات إن كان أمثال هذا من شروط التوكل ، فإن قلت : فلم نهى عن وسبب الوباء في الطب الهواء ، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر ، والهواء هو المضر فلم لم يرخص فيه ؟ فاعلم أنه لا خلاف في أن الفرار من المضر غير منهي عنه ، إذ الحجامة والفصد فرار من المضر ، وترك التوكل في أمثال هذا مباح ، فهذا لا يدل على المقصود ، ولكن الذي ينقدح فيه والعلم عند الله تعالى أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له ، فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق ، فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن فالخروج من البلد لا يخلص غالبا من الأثر الذي استحكم من قبل ، ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقى والطيرة وغيرهما ، ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضا للتوكل ولم يكن منهيا عنه ولكن صار منهيا عنه لأنه انضاف إليه أمر آخر ، وهو أنه لو رخص لأصحابه في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعيا في إهلاكهم تحقيقا وخلاصهم منتظر ، كما أن خلاص الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت ، ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعا بالخلاص ، وهو قاطع في إهلاك الباقين ، والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضا الخروج من البلد الذي فيه الوباء والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر الأعضاء فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد ، فإنه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم نعم لو لم يبق في البلد إلا مطعون ، وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة ولا ينهى عن الدخول ؛ لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين ، وبهذا شبه في بعض الأخبار بالفرار من الزحف ؛ لأن فيه كسرا لقلوب بقية المسلمين وسعيا في إهلاكهم فهذه أمور دقيقة ، فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر ما سمعه ، وغلط العباد والزهاد في مثل هذا كثير ، وإنما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك . الفرار من الطاعون