فإن قلت : ففي فضل ، كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي لينال الفضل فنقول : فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها ، أو خاف على نفسه طغيان العافية وغلبة الشهوات ، أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة ، أو احتاج إلى نيل ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين ، أو قصرت بصيرته عن الاطلاع على ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوما كالرقى ، أو كان شغله بحاله يمنعه عن التداوي وكان التداوي ، يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع فإلى هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كان مقامه أعلى من هذه المقامات كلها ؛ إذ كان حاله يقتضي أن تكون مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب ، كما أن الرغبة في المال نقص ، والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالا ، فهي أيضا نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه ، فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر ، وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده ، وكان لا يمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد ، فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه ، فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلها فكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثل هذه المشاهدة ، وإنما لم يترك استعمال الدواء جريا على سنة الله تعالى وترخيصا لأمته فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال ، فإن ذلك يعظم ضرره ، نعم التداوي لا يضر إلا من حيث رؤية الدواء نافعا دون خالق الدواء ، وهذا قد نهي عنه ، ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي ، وذلك منهي عنه والمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعا بنفسه ، بل من حيث إنه جعله الله تعالى سببا للنفع ، كما لا يرى الماء مرويا ولا الخبز مشبعا ، فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب ، فإنه إن اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك التداوي وأن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال ، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات ، وأن واحدا من الفعل والترك ليس شرطا في التوكل إلا ترك الموهومات كالكي والرقى ، فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين . التداوي قد يكون أفضل في بعض ،