الآية الحادية والعشرون قوله تعالى : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } . فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى : قال : زعم بعض أهل إسماعيل القاضي العراق أن أنه لا يجب فيه صداق ، وكيف يجوز هذا ونكاح بغير صداق سفاح ؟ وبالغ في الرد ، وبين أن الله ذكر نكاح كل امرأة ، فقرنه بذكر الصداق فقال في الإماء : { السيد إذا زوج عبده من أمته فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف } . وقال تعالى : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن } . وقال أيضا : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } ; فكيف يخلو عنه عقد حكم الشرع فيه بأن يجب في كل نوع منه ، حتى أنه لو سكت في العقد عنه لوجب بالوطء . قال ابن العربي : وهذا الذي ذكره هو مذهب القاضي إسماعيل الشافعي ، وقد تعرض الحنفيون والشافعيون للرد على وأبي حنيفة ، فرد عليه إسماعيل في كتاب [ ص: 509 ] " أحكام القرآن " له ، ورد عليه أبو بكر الرازي علي بن محمد الطبري الهراس في كتاب " أحكام القرآن " ، فتعرضوا للارتقاء في صفوفه بغير تمييز . قال : يجب المهر ويسقط ; لئلا تكون استباحة البضع بغير بدل ، ويسقط في الثاني حين يستحقه المولى ، لأنها لا تملكه ، والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين . الرازي
وقال الطبري : إن المهر لو وجب لوجب لشخص على شخص ، فمن الذي أوجبه ؟ وعلى من وجب ؟ فإن قلت : وجب للسيد على العبد فهذا محال أن يثبت له دين على عبده ، ووجوبه لا على أحد محال ، وكما أن العقد يقتضي الإيجاب كذلك الملك يقتضي الإسقاط ، وليس إيجابه ضرورة الإسقاط ، كما يقال إن إثبات الملك للابن ضرورة العتق ; فإن العتق لا يتصور بدون الملك ، فأما إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته ، فوجب ألا يجب بحال . وقد دل الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلا ، وإذا لم يملك ولا بد من مالك ، واستحال أن يكون السيد مالكا ; فامتنع لذلك ، وعاد الكلام إلى أصل آخر ; وهو أن العبد هل يملك أم لا ؟ قال : أما قول القاضي أبو بكر : إنه يجب ويسقط فكلام له في الشرع أمثلة ، منها متفق عليها ومنها مختلف فيها ; فمن المتفق عليه بيننا وبين الشافعية والحنفية هو فيما إذا الرازي . فإن هذا القول وهو كلمة " هو حر " يتضمن عقد البيع ، ووجوب الثمن على المبتاع ، ثم وجوب الثمن للبائع ، ووجوب الملك للمبتاع ، وخروجه عن يد البائع وملكه والعتق ، ويجب الملك ثم يسقط . كل ذلك بصحة البيع والعتق . كذلك يلزم أن يقول : يجب الصداق هاهنا لحل الوطء ، ثم يكون ما كان . قال لرجل : أعتق عبدك عني على ألف . فقال سيده : هو حر
ومما اتفقنا عليه نحن والشافعية إذا فإنه يصح عقد الشراء ويحصل الملك للابن ، ثم يسقط الملك ويعتق ، ويجب الثمن للبائع . [ ص: 510 ] وقد قال بعض أصحاب اشترى الابن أباه : إذا الشافعي يجب القصاص ويسقط ، فوجوبه لوجود علة القصاص من العدوان وشرطه من المكافآت ، ويسقط لعدم المستحق ; إذ يستحيل أن يجب للمرء على نفسه . قتل الأب ابنه
ونحن نقول : ينتقل القصاص إلى غير الأب من الورثة ، كما لو كان الأب كافرا لانتقل الميراث عنه إلى غيره من الورثة . وكذلك قال أصحاب : لو أبي حنيفة قتل به ، ولو قتل حر عبدا لم يترك وفاء قتل به ، ولو قتل مكاتبا ترك وفاء لم يقتل به ; لأن الصحابة اختلفوا فيه ; فمنهم من قال : مات عبدا والقصاص لسيده . ومنهم من قال : مات حرا ويدفع من ماله كتابته لسيده ، ويرث ماله بقية ورثته ، ويرثون قصاصه ، فانتصب اختلافهم في المستحق شبهة في درك القصاص . وهذا الفقه صحيح ; وذلك أن الإيجاب حكم ، والاستيفاء حكم آخر مغاير له ، وأسبابهما تختلف ; وإذا اختلفا سببا واختلفا ذاتا كيف يصح لمحق أن ينكر انفراد أحدهما عن الآخر ؟ بل هنالك أغرب من هذا ; وهو أن الوجوب حكم والاستقرار حكم آخر ; فإن الصداق يجب بالعقد ، ولا يستقر بالوطء ; إذ يتطرق السقوط إلى جميعه قبل الوطء بالردة ، وإلى نصفه بالطلاق . قتل مكاتبا
وقد انبنى على هذا الأصل أحكام كثيرة من الزكاة ، إذا كان الصداق ماشية وغيرها ; فإذا كان الاستقرار وهو وصف الوجوب حكما انفرد عن الوجوب بانفراد الاستيفاء منه وهو غيره أصلا وصفة فذلك أولى .
وأما قول الطبري : من الذي أوجب عليه ؟ ولمن وجب ؟ فيقال له : نقصك قسم ثالث عدلت عنه أو تعمدت تركه تلبيسا : وهو أن يجب للأمة وهي الزوج على العبد الذي تزوجها ، كما تجب عليه النفقة لها . فإن قال : ليست الأمة أهلا للملك ولا للتمليك . قلنا : لا نسلم ; بل العبد أهل للملك والتمليك . [ ص: 511 ] وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف تخليصا وتلخيصا وإنصافا ، وحققنا في الكتب الثلاثة أن علة الملك الحياة والآدمية ، وإنما انغمر وصف العبد بالرق للسيد ، ولكن العلة باقية ، والحكم قد يتركب عليها مع وجود الغامر لها . وكيف لا تملك الأمة والله تعالى يقول في الإماء : { فآتوهن أجورهن } . فأضاف الأجور إليهن إضافة تمليك ؟ وأما قوله : إن العقد كما يقتضي الإيجاب كذلك [ الملك ] يقتضي الإسقاط . قلنا له : فذكر على كل واحد مقتضاه أوجب بالعقد وأسقط بالملك ووفر على كل سبب حكمه كما فعلنا في شراء القريب . وأما قوله : إن إيجابه ليس ضرورة للإسقاط بخلاف عتق القريب فإن إيجابه هناك ضرورة العتق . قلنا : وإيجابه الصداق هاهنا ضرورة الحل ; إذ جعله الله علما على الفرق بين النكاح والسفاح ، ونص على إيجابه في كل نكاح على اختلاف أنواع الناكحين من ملك أو مملوك ; فيجب للأمة ، ثم يجب للسيد منها ، وليس يستحيل أن يجب للسيد على العبد حق ، فلا تغر غرورا بما لا تحصيل فيه ولا منفعة له . وهلا قلتم : يجب للأمة على العبد ، ثم يجب للسيد من الأمة ، ثم يسقط ; وسقوط الحق بانتقاله من محل إلى محل ليس غريبا في مسائل القصاص والشفعة والديون .
وأما قوله : إن العتق لا يتصور بدون الملك ، فكذلك لا يتصور الحل في النكاح بغير صداق . وأما قولك : إن القول عاد إلى أن العبد لا يملك فيا حبذا عوده إلى هذا الأصل الذي ظهرنا فيه عليكم ، والحمد لله .