المسألة الثالثة : قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } : وقد تقدم بيانه في سورة البقرة .
المسألة الرابعة : في : تتعدد أقسامه من جهات مختلفات ، فتنقسم من جهة المقصود به إلى هرب أو طلب . وتنقسم من جهة الأحكام إلى خمسة أقسام ، وهي من أحكام أفعال المكلفين الشرعية : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومكروه ، وحرام . وينقسم من جهة التنويع في المقاصد إلى أقسام : [ ص: 611 ] الأول : السفر في الأرض ، وهي تنقسم إلى ستة أقسام : الأول : الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ; وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرها من أنواعها بيناها في شرح الحديث ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان ، فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام ، فإن بقي فقد عصى ، ويختلف في حاله كما تقدم بيانه . الهجرة
الثاني : . قال الخروج من أرض البدعة ابن القاسم : سمعت يقول : لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها مالكا السلف . وهذا صحيح ; فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه قال الله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوصوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } . وقد كنت قلت لشيخنا : ارحل عن أرض الإمام الزاهد أبي بكر الفهري مصر إلى بلادك . فيقول : لا أحب أن أدخل بلادا غلب عليها كثرة الجهل ، وقلة العقل ، فأقول له : فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله ; فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام ، فيقول : وعلى يدي فيها هدى كثير ، وإرشاد للخلق ، وتوحيد ، وصد عن العقائد السيئة ، ودعاء إلى الله عز وجل وتعالى الكلام بيني وبينه فيها إلى حد شرحناه في ترتيب [ لباب ] الرحلة واستوفيناه .
الثالث : ; فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم . [ ص: 612 ] الخروج عن أرض غلب عليها الحرام
الرابع : ; وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه ، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه ; ليخلصها من ذلك المحذور . وأول من حفظناه فيه الخليل الفرار من الإذاية في البدن إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال : { إني مهاجر إلى ربي } .
وقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } وموسى قال الله سبحانه فيه : { فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين } . وذلك يكثر تعداده . ويلحق به ، وهو :
الخامس : . وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء حين استوخموا خوف المرض في البلاد الوخمة ، والخروج منها إلى الأرض النزهة المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح ، فيكونوا فيه حتى يصحوا ، وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون ; فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيد أني رأيت علماءنا قالوا هو مكروه . وقد استوفيناه في شرح الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السادس : ; فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله أو آكد ، فهذه أمهات قسم الهرب . وأما قسم الطلب فينقسم إلى قسمين : طلب دين وطلب دنيا ; فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه ، ولكن أمهاته الحاضرة الفرار خوف الإذاية في المال عندي الآن تسعة :
الأول : قال الله تعالى : { سفر العبرة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } . وهذا كثير في كتاب الله عز وجل . ويقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها . وقيل : لينفذ الحق فيها . [ ص: 613 ]
الثاني : . والأول وإن كان ندبا فهذا فرض ، وقد بيناه في موضعه . سفر الحج
الثالث : ، وله أحكامه . سفر الجهاد
الرابع : ; فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة ، فيخرج في طلبه لا يزيد عليه ولا ينقص من صيد أو احتطاب أو احتشاش أو استئجار ، وهو فرض عليه . سفر المعاش
الخامس : الكثير الزائد على القوت ; وذلك جائز بفضل الله سبحانه . قال الله سبحانه : { سفر التجارة والكسب ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } يعني : التجارة . وهذه نعمة من بها في سفر الحج ، فكيف إذا انفردت .
السادس : في طلب العلم ، وهو مشهور .
السابع : قصد البقاع الكريمة ، وذلك لا يكون إلا في نوعين : أحدهما المساجد الإلهية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى } . لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ،
الثاني : الثغور للرباط بها ، وتكثير سوادها للذب عنها ; ففي ذلك فضل كثير .
الثامن : زيارة الإخوان في الله ، وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث .
التاسع : السفر إلى دار الحرب ، .
وسيأتي بعد إن شاء الله تعالى ; وبعد هذا فالنية تقلب الواجب من هذا حراما والحرام حلالا بحسب حسن القصد وإخلاص السر عن الشوائب . [ ص: 614 ]
وقد تتنوع هذه الأنواع إلى تفصيل ; هذا أصلها التي تتركب عليه . فإذا ثبت هذا فقد اختلف الناس في المذكورة هاهنا على ستة أقوال : السفر الذي تقصر فيه الصلاة
الأول : أنها لا تقصر إلا في سفر واجب ; لأن الصلاة فرض ، ولا يسقط الفرض إلا فرض .
الثاني : أنها لا تقصر إلا في سفر قربة ، وبه قال جماعة ، منهم . وتعلقوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبحديث ابن حنبل قال : { عمران بن حصين } . إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد
الثالث : أنه يجوز القصر في كل سفر مباح ، كما قد بينا أنواعه ، لعموم قوله سبحانه : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ولم يفرق بين سفر وسفر .
الخامس : أنه يقصر في كل سفر ، حتى في سفر المعصية ، وهو قول وجماعة ، بنوه على أن القصر فرض الصلاة في السفر بعينه . وتعلقوا بحديث أبي حنيفة : { عائشة } . فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على أصلها
السادس : أن القصر لا يجوز إلا مع الخوف قال به جماعة منهم عائشة قالت : أتموا ، فقالوا لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر . قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب ، وكان يخاف ; فهل تخافون أنتم ؟
أما القول الأول ففاسد ; لأن عموم القرآن لم يخص منها واجبا من ندب ، { وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير الواجب ، كالعمرة في الحديبية وغيرها } .
وأما من قال : لا تقصر إلا في سفر قربة فعموم القرآن أيضا يقضي عليه ; لأنه عم ولم يخص قربة من مباح ، وهو القول الثالث : الصحيح . [ ص: 615 ]
وأما من قال : إنه يقصر في سفر المعصية فلأنها فرض معين للسفر . وقد اختلف في ذلك قول علماء المذهب ، وهي مسألة تعلقت لهم من أقوال العراقيين . وقد بينا في كتاب " التلخيص " وغيره فسادها . وقد تكلمنا على هذا الحديث في شرح مسائل الخلاف والحديث ، وبينا أنه خبر واحد ، يعارضه نص القرآن والأخبار المتواترة ; فإن الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفا ، والتمام أصلا ، ويعارض أيضا الأصول المعقولة فإنه جعل الإقامة في القرآن أصلا ، وهو الواجب وقلبها في الحديث الراوي ; وأقواه { قالت : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر وأتممت ، وأفطر وصمت ، ولم ينكر ذلك علي ، وكانت تتم في السفر عائشة } . وأما سفر المعصية فأشكل دليل فيه لهم أن قالوا : إنا بنينا الأمر على أن القصر عزيمة وليس برخصة ، والعزائم لا تتغير بسفر الطاعة والمعصية كالتيمم . قلنا : قد بينا أنه رخصة ، وعليه تنبني المسألة ، والرخص لا تجوز في سفر المعصية كالمسح على الخفين . أن
المسألة الخامسة : تلاعب قوم بالدين ; فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل . وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب ، أو مستخف بالدين ; ولو لا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ، ولا أن أفكر فيه بفضول قلبي ; وقد كان من تقدم من الصحابة يختلفون في تقديره ; فروي عن عمر وابن عمر أنهم كانوا يقدرونه بيوم . وعن وابن عباس أنه كان يعلمهم بأن السفر كل خروج تكلف له وأدركت فيه المشقة . ابن مسعود