( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا    ( 22 ) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا   ( 23 ) ) 
يقول تعالى مخبرا عن مريم أنها لما قال لها جبريل  عن الله تعالى ما قال : إنها استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك - وهو جبريل  عليه السلام - عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج ، فحملت بالولد بإذن الله تعالى . فلما حملت به ضاقت ذرعا به ولم تدر ماذا تقول للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا   . وذلك أن زكريا  عليه السلام ، كان قد سأل الله الولد ، فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ، فدخلت عليها مريم  فقامت إليها فاعتنقتها ، وقالت : أشعرت يا مريم  أني حبلى ؟ فقالت لها مريم   : وهل علمت أيضا أني حبلى ؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق ، ثم كانت امرأة زكريا  بعد ذلك إذا واجهت مريم  تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم ،  أي : يعظمه ويخضع له ، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعا ، كما سجد ليوسف  أبواه وإخوته ، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم ،  عليه السلام ، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى . 
قال ابن أبي حاتم   : حدثنا علي بن الحسين  قال : قرئ على  الحارث بن مسكين  وأنا أسمع ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم  قال : قال مالك  رحمه الله : بلغني أن عيسى ابن مريم  ويحيى بن  [ ص: 222 ] زكريا  ابنا خالة ، وكان حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى  قالت لمريم   : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك . قال مالك   : أرى ذلك لتفضيل عيسى  عليه السلام; لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص . 
ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى  عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر . وقال عكرمة   : ثمانية أشهر - قال : ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر . 
وقال  ابن جريج   : أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي  ، سمع ابن عباس  وسئل عن حبل مريم ،  قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت . 
وهذا غريب ، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى : ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة   ) فالفاء وإن كانت للتعقيب ، ولكن تعقيب كل شيء بحسبه ، كما قال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما   ) [ المؤمنون : 12 - 14 ] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها . وقد ثبت في الصحيحين : أن بين كل صفتين أربعين يوما وقال تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة   ) [ الحج : 63 ] فالمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن; ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس ، يقال له : يوسف النجار  ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره ، أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمل ما هي فيه ، فجعل أمرها يجوس في فكره ، لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول ، فقال : يا مريم ،  إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي . قالت : وما هو ؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حب ؟ وهل يكون زرع من غير بذر ؟ وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت : نعم - فهمت ما أشار إليه - أما قولك : " هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ؟ " فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ، ولا بذر " وهل خلق يكون من غير أب ؟ " فإن الله قد خلق آدم  من غير أب ولا أم . فصدقها ، وسلم لها حالها . 
ولما استشعرت مريم  من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكانا قصيا ، أي : قاصيا منهم بعيدا عنهم; لئلا تراهم ولا يروها . 
قال محمد بن إسحاق   : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون ، حتى فطر لسانها ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا ،  وشاع الحديث في بني إسرائيل  ، فقالوا : " إنما صاحبها يوسف   " ، ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس ، واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد ولا  [ ص: 223 ] تراه . 
وقوله : ( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة    ) أي : فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه . 
وقد اختلفوا فيه ، فقال  السدي   : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس   . 
وقال  وهب بن منبه   : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام  وبلاد مصر ،  ضربها الطلق . وفي رواية عن وهب   : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس  ، في قرية هناك يقال لها : " بيت لحم   " . 
قلت : وقد تقدم في حديث الإسراء ، من رواية  النسائي  عن أنس ،  رضي الله عنه ،  والبيهقي  عن شداد بن أوس  ، رضي الله عنه : أن ذلك ببيت لحم  ، فالله أعلم ، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقد تلقاه الناس . وقد ورد به الحديث إن صح . 
وقوله تعالى إخبارا عنها : ( قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا   ) فيه دليل على جواز تمني الموت  عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت : ( يا ليتني مت قبل هذا   ) أي قبل هذا الحال ، ( وكنت نسيا منسيا   ) أي لم أخلق ولم أك شيئا . قاله ابن عباس . 
وقال  السدي   : قالت وهي تطلق من الحبل - استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بعل ( وكنت نسيا منسيا   ) نسي فترك طلبه ، كخرق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر . وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي . 
وقال قتادة   : ( وكنت نسيا منسيا   ) أي : شيئا لا يعرف ، ولا يذكر ، ولا يدرى من أنا . 
وقال الربيع بن أنس   : ( وكنت نسيا منسيا   ) وهو السقط . 
وقال ابن زيد   : لم أكن شيئا قط . 
وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة ، عند قوله : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين   ) [ يوسف : 101 ] 
				
						
						
