( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون    ( 34 ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون   ( 35 ) وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم   ( 36 ) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم   ( 37 ) ) . 
يقول تعالى لرسوله محمد  صلى الله عليه وسلم : عليه ذلك الذي قصصنا عليك من خبر عيسى ،   " قول الحق الذي فيه يمترون " أي : يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به; ولهذا قرأ الأكثرون : " قول الحق " برفع قول . وقرأ عاصم ،   وعبد الله بن عامر   : ( قول الحق ) . 
وعن ابن مسعود  أنه قرأ : " ذلك عيسى ابن مريم  قال الحق " . والرفع أظهر إعرابا ، ويشهد له قوله تعالى : ( الحق من ربك فلا تكن من الممترين   ) [ آل عمران : 59 ، 60 ] . 
ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدا نبيا ، نزه نفسه المقدسة فقال : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه   ) أي : عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا ، ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون   ) أي : إذا أراد شيئا فإنما يأمر به ، فيصير كما يشاء ، كما قال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين   ) [ آل عمران : 59 ، 60 ] 
وقوله : ( وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم   ) أي : ومما أمر عيسى  به قومه وهو في مهده ، أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه ، وأمرهم بعبادته ، فقال : ( فاعبدوه هذا صراط مستقيم   )  [ ص: 231 ] أي : هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم ، أي : قويم ، من اتبعه رشد وهدى ، ومن خالفه ضل وغوى . 
وقوله : ( فاختلف الأحزاب من بينهم   ) أي : اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى   بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم  وروح منه ، فصممت طائفة - وهم جمهور اليهود ، عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنية ، وقالوا : كلامه هذا سحر . وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم الله . وقال آخرون : هو ابن الله ، وقال آخرون : ثالث ثلاثة . وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله . وهذا هو قول الحق ، الذي أرشد الله إليه المؤمنين . وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون  ،  وابن جريج  ، وقتادة ،  وغير واحد من السلف والخلف . 
قال عبد الرزاق   : أخبرنا معمر ،  عن قتادة  في قوله : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون   ) ، قال : اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى  حين رفع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء - وهم اليعقوبية   . فقال الثلاثة : كذبت . ثم قال اثنان منهم للثالث : قل أنت فيه ، قال : هو ابن الله - وهم النسطورية   . فقال الاثنان : كذبت . ثم قال أحد الاثنين للآخر : قل فيه . قال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله - وهم الإسرائيلية  ملوك النصارى ، عليهم لعائن الله . قال الرابع : كذبت ، بل هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ، وهم المسلمون . فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا ، فاقتتلوا فظهر على المسلمين ، وذلك قول الله تعالى : ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس   ) [ آل عمران : 21 ] وقال قتادة : وهم الذين قال الله : ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) قال : اختلفوا فيه فصاروا أحزابا 
وقد روى ابن أبي حاتم  ، عن ابن عباس  ، وعن عروة بن الزبير  ، وعن بعض أهل العلم ، قريبا من ذلك . وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم : أن قسطنطين  جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم  ، عليه السلام ، اختلافا متباينا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا وسبعون تقول فيه قولا آخر ، وخمسون تقول فيه شيئا آخر ، ومائة وستون تقول شيئا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم ، اتفقوا على قول وصمموا عليه ومال إليهم الملك ، وكان فيلسوفا ، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة ، بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين ، وشرعوا له أشياء  [ ص: 232 ] وابتدعوا بدعا كثيرة ، وحرفوا دين المسيح ،  وغيروه ، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها : بلاد الشام  ، والجزيرة ،  والروم ، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح ،  وقد كذبوا ، بل رفعه الله إلى السماء . 
وقوله : ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم    ) تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله ، وافترى ، وزعم أن له ولدا . ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم; فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين :  " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد   ) [ هود : 102 ] وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :  " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم "  . وقد قال الله تعالى : ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير   ) [ الحج : 48 ] وقال تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار   ) [ إبراهيم : 42 ] ولهذا قال هاهنا : ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم   ) أي : يوم القيامة ، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته ، عن عبادة بن الصامت   - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا  عبده ورسوله وأن عيسى  عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم  وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " 
				
						
						
