( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون    ( 18 ) فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون   ( 19 ) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين   ( 20 ) وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون   ( 21 ) وعليها وعلى الفلك تحملون   ( 22 ) ) . 
يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى ، في إنزاله القطر من السماء   ) بقدر ) أي : بحسب الحاجة ، لا كثيرا فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلا فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها ، يسوق إليها الماء من بلاد أخرى ، كما في أرض مصر ،  ويقال لها : " الأرض الجرز " ، يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة  في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طينا أحمر ، فيسقي أرض مصر ،  ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه ، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال ، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور . 
وقوله : ( فأسكناه في الأرض   ) أي : جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض ، وجعلنا في الأرض قابلية له ، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى . 
وقوله : ( وإنا على ذهاب به لقادرون   ) أي : لو شئنا ألا تمطر لفعلنا ، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري [ والبحار ] والقفار لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض ، بل ينجر على وجهها لفعلنا . ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا . ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبا فراتا زلالا فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض ، فيفتح العيون والأنهار ، فيسقي به الزروع والثمار ، وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم ، وتغتسلون منه وتتطهرون  [ ص: 471 ] وتتنظفون ، فله الحمد والمنة . 
وقوله : ( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب   ) يعني : فأخرجنا لكم بما أنزلنا من الماء ) جنات ) أي : بساتين وحدائق ذات بهجة ، أي : ذات منظر حسن . 
وقوله : ( من نخيل وأعناب   ) أي : فيها نخيل وأعناب . وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ،  ولا فرق بين الشيء وبين نظيره ، وكذلك في حق كل أهل إقليم ، عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره . 
وقوله : ( لكم فيها فواكه كثيرة   ) أي : من جميع الثمار ، كما قال : ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات   ) [ النحل : 11 ] . 
وقوله : ( ومنها تأكلون   ) كأنه معطوف على شيء مقدر ، تقديره : تنظرون إلى حسنه ونضجه ، ومنه تأكلون . 
وقوله : ( وشجرة تخرج من طور سيناء   ) يعني : الزيتونة . والطور : هو الجبل . وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عري عنها سمي جبلا لا طورا ، والله أعلم . وطور سيناء   : هو طور سينين ، وهو الجبل الذي كلم [ الله ] عليه موسى بن عمران ،  عليه السلام ، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون . 
وقوله : ( تنبت بالدهن   ) : قال بعضهم : الباء زائدة ، وتقديره : تنبت الدهن ، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده ، أي : يده . وأما على قول من يضمن الفعل فتقديره : تخرج بالدهن ، أو تأتي بالدهن; ولهذا قال : ( وصبغ ) أي : أدم ، قاله قتادة   . ) للآكلين ) أي : فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ ، كما قال  الإمام أحمد   : حدثنا  وكيع ،  عن عبد الله بن عيسى ،  عن عطاء الشامي ،  عن أبي أسيد واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " كلوا الزيت وادهنوا به ; فإنه من شجرة مباركة   " . 
وقال عبد بن حميد  في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق ،  أخبرنا معمر ،  عن  زيد بن أسلم ،  عن أبيه ، عن عمر;  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ائتدموا بالزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة  " . 
ورواه الترمذي   وابن ماجه  من غير وجه ، عن عبد الرزاق   . قال الترمذي   : ولا يعرف إلا من  [ ص: 472 ] حديثه ، وكان يضطرب فيه ، فربما ذكر فيه عمر  وربما لم يذكره . 
قال  أبو القاسم الطبراني   : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ،  حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ،  حدثني الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة ،  عن أبيه عن جده ، قال : ضفت  عمر بن الخطاب  ليلة عاشوراء ، فأطعمني من رأس بعير بارد ، وأطعمنا زيتا ، وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم . 
وقوله : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون  وعليها وعلى الفلك تحملون   ) : يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع ، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم ، ويأكلون من حملانها ، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ويركبون ظهورها ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم ، كما قال تعالى : ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم   ) [ النحل : 7 ] ، وقال تعالى : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون . وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون . ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون   ) [ يس : 71 73 ] . 
				
						
						
