( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ( 51 ) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ( 52 ) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ( 53 ) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ( 54 ) ) .
يقول تعالى : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) يدعوهم إلى الله عز وجل ، ولكنا خصصناك - يا محمد - بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك أن تبلغ الناس هذا القرآن ، ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] ، ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] ( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) [ الأنعام : 92 ] ، ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] . وفي الصحيحين : وفيهما : " بعثت إلى الأحمر والأسود " ; ولهذا قال : ( " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ) يعني : بالقرآن ، قاله ابن عباس ( جهادا كبيرا ) ، كما قال تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] .
[ ص: 117 ]
وقوله : ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ) أي : ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال . قاله خلق الماءين : الحلو والملح ، واختاره ابن جريج ابن جرير ، وهذا الذي لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات . والله سبحانه إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم .
وقوله : ( وهذا ملح أجاج ) أي : مالح مر زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم ، وبحر اليمن ، وبحر البصرة ، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر ، وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تتموج وتضطرب وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت ، حتى ترجع إلى غايتها الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ثم تشرع في النقص ، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وله القدرة التامة - العادة بذلك . فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء ، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان . ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة; ولهذا : أنتوضأ به؟ فقال : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ماء البحر . رواه الأئمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل السنن بإسناد جيد .
وقوله : ( وجعل بينهما برزخا وحجرا ) أي : بين العذب والمالح ) برزخا ) أي : حاجزا ، وهو اليبس من الأرض ، ( وحجرا محجورا ) أي : مانعا أن يصل أحدهما إلى الآخر ، كما قال : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 19 - 21 ] ، وقال تعالى : ( أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ) [ النمل : 61 ] .
وقوله : ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ) أي : خلق الإنسان من نطفة ضعيفة ، فسواه وعدله ، وجعله كامل الخلقة ، ذكرا أو أنثى ، كما يشاء ، ( فجعله نسبا وصهرا ) ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهرا ، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات . وكل ذلك من ماء مهين; ولهذا قال : ( وكان ربك قديرا ) .