هذه صفات عباد الله المؤمنين ( الذين يمشون على الأرض هونا ) أي : بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار ، كما قال : ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) [ الإسراء : 37 ] . فأما هؤلاء فإنهم ، ولا أشر ولا بطر ، [ ص: 122 ] وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعا ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وكأنما الأرض تطوى له . وقد كره بعض السلف يمشون من غير استكبار ولا مرح ، حتى روي عن المشي بتضعف وتصنع عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا ، فقال : ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال : لا يا أمير المؤمنين . فعلاه بالدرة ، وأمره أن يمشي بقوة . وإنما المراد بالهون هاهنا السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا "
وقال عن عبد الله بن المبارك ، معمر ، عن يحيى بن المختار ، عن في قوله : ( الحسن البصري وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) قال : إن المؤمنين قوم ذلل ، ذلت منهم - والله - الأسماع والأبصار والجوارح ، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، وإنهم لأصحاء ، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . أما والله ما أحزنهم حزن الناس ، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة ، أبكاهم الخوف من النار ، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب ، فقد قل علمه وحضر عذابه .
وقوله : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) أي : إذا سفه عليهم الجهال بالسيئ ، لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ، ولا يقولون إلا خيرا ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، وكما قال تعالى : ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) [ القصص : 55 ] .
وقال : حدثنا الإمام أحمد أسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي خالد الوالبي ، عن النعمان بن مقرن المزني قال : إسناده حسن ، ولم يخرجوه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وسب رجل رجلا عنده ، قال : فجعل الرجل المسبوب يقول : عليك السلام . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ] إن ملكا بينكما يذب عنك ، كلما شتمك هذا قال له : بل أنت وأنت أحق به . وإذا قال له : عليك السلام ، قال : لا بل عليك ، وأنت أحق به . "
وقال مجاهد : ( قالوا سلاما ) يعني : قالوا : سدادا .
وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفا من القول .
وقال : ( الحسن البصري قالوا [ سلاما ) ، قال : حلماء لا يجهلون ] ، وإن جهل عليهم حلموا . يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل .
[ ص: 123 ]
وقوله : ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) أي : في عبادته وطاعته ، كما قال تعالى : ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون ) [ الذاريات : 17 - 18 ] ، وقال ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) [ السجدة : 16 ] وقال ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) الآية [ الزمر : 9 ] ولهذا قال : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ) أي : ملازما دائما ، كما قال الشاعر :
إن يعذب يكن غراما ، وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله : ( إن عذابها كان غراما ) : كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام ، وإنما الغرام اللازم ما دامت السماوات والأرض . وكذا قال سليمان التيمي .
وقال محمد بن كعب [ القرظي ] : ( إن عذابها كان غراما ) يعني : ما نعموا في الدنيا; إن الله سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه ، فأغرمهم فأدخلهم النار .
( إنها ساءت مستقرا ومقاما ) أي : بئس المنزل منظرا ، وبئس المقيل مقاما .
[ و ] قال ابن أبي حاتم عند قوله : ( إنها ساءت مستقرا ومقاما ) : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث قال : إذا طرح الرجل في النار هوى فيها ، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له : مكانك حتى تتحف ، قال : فيسقى كأسا من سم الأساود والعقارب ، قال : فيميز الجلد على حدة ، والشعر على حدة ، والعصب على حدة ، والعروق على حدة .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن قال : إن في النار لجبابا فيها حيات أمثال البخت ، وعقارب أمثال البغال الدلم ، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم ، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم ، فإذا وجدت حر النار رجعت . عبيد بن عمير
وقال : حدثنا الإمام أحمد الحسن بن موسى ، حدثنا عن سلام - يعني ابن مسكين - أبي ظلال ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لجبريل : اذهب فآتني بعبدي هذا . فينطلق جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون ، فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره ، فيقول الله عز وجل : آتني به فإنه في مكان كذا وكذا . فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل ، فيقول له : يا عبدي ، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول : يا رب شر مكان ، شر مقيل . فيقول : ردوا عبدي . فيقول : يا رب ، ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها! فيقول : دعوا عبدي . " إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان ، يا منان . فيقول الله
وقوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) أي : ليسوا بمبذرين في [ ص: 124 ] إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل عدلا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، ( وكان بين ذلك قواما ) ، كما قال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [ الإسراء : 29 ] .
وقال : حدثنا الإمام أحمد عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن ضمرة ، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي الدرداء ، . ولم يخرجوه . " من فقه الرجل رفقه في معيشته "
وقال [ الإمام ] أحمد أيضا : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سكين بن عبد العزيز العبدي ، حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن مسعود . ولم يخرجوه . " ما عال من اقتصد "
وقال : حدثنا الحافظ أبو بكر البزار أحمد بن يحيى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون حدثنا سعيد بن حكيم ، عن مسلم بن حبيب ، عن بلال - يعني العبسي - عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من حديث ما أحسن القصد في الغنى ، وأحسن القصد في الفقر ، وأحسن القصد في العبادة " حذيفة رضي الله عنه .
وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف .
وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله .
وقال : ليس النفقة في سبيل الله سرفا [ والله أعلم ] . الحسن البصري