[ ص: 234 ]  ( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا  قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون   ( 29 ) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين   ( 30 ) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين   ( 31 ) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين   ( 32 ) ) . 
قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى  عليه السلام ، قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأنقاهما ، وقد يستفاد هذا أيضا من الآية الكريمة من قوله : ( فلما قضى موسى الأجل   ) أي : الأكمل منهما ، والله أعلم . 
قال ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : قضى عشر سنين ، وبعدها عشرا أخر . وهذا القول لم أره لغيره ، وقد حكاه عنه ابن جرير  ،  وابن أبي حاتم ،  والله أعلم . 
وقوله : ( وسار بأهله   ) قالوا : كان موسى  قد اشتاق إلى بلاده وأهله ، فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون  وقومه ، فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره ، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة ، فنزل منزلا فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئا ، فتعجب من ذلك ، فبينما هو كذلك [ إذ ] ( آنس من جانب الطور نارا   ) أي : رأى نارا تضيء له على بعد ، ( قال لأهله امكثوا إني آنست نارا   ) أي : حتى أذهب إليها ، ( لعلي آتيكم منها بخبر   ) . وذلك لأنه قد أضل الطريق ، ( أو جذوة من النار   ) أي : قطعة منها ، ( لعلكم تصطلون   ) أي : تتدفئون بها من البرد . 
قال الله تعالى : ( فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن   ) أي : من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ، كما قال تعالى : ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر   ) ، فهذا مما يرشد إلى أن موسى  قصد النار إلى جهة القبلة ، والجبل الغربي عن يمينه ، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي ، فوقف باهتا في أمرها ، فناداه ربه : ( من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة   ) . 
قال ابن جرير   : حدثنا ابن وكيع  ، حدثنا أبو معاوية  ، عن الأعمش  ، عن عمرو بن مرة  ، عن أبي عبيدة  ، عن عبد الله  قال : رأيت الشجرة التي نودي منها موسى  ، عليه السلام ، سمرة خضراء ترف  . إسناده مقارب . 
وقال محمد بن إسحاق  ، عن بعض من لا يتهم ، عن  وهب بن منبه  قال : شجرة من العليق ، وبعض أهل الكتاب  يقول : من العوسج . 
وقال قتادة   : هي من العوسج ، وعصاه من العوسج . 
وقوله تعالى : ( أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين   ) أي : الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين ، الفعال لما يشاء ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في  [ ص: 235 ] ذاته وصفاته ، وأقواله وأفعاله سبحانه ! 
وقوله : ( وأن ألق عصاك   ) أي : التي في يدك . كما قرره على ذلك في قوله : ( وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى   ) [ طه : 17 ، 18 ] . والمعنى : أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها ( فألقاها فإذا هي حية تسعى   ) فعرف وتحقق أن الذي يخاطبه ويكلمه هو الذي يقول للشيء : كن ، فيكون . كما تقدم بيان ذلك في سورة " طه " . 
وقال هاهنا : ( فلما رآها تهتز   ) أي : تضطرب ( كأنها جان   ) أي : في حركتها السريعة مع عظم خلق قوائمها واتساع فمها ، واصطكاك أنيابها وأضراسها ، بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها ، فتنحدر في فيها تتقعقع ، كأنها حادرة في واد . فعند ذلك ( ولى مدبرا ولم يعقب   ) أي : ولم يكن يلتفت ; لأن طبع البشرية ينفر من ذلك . فلما قال الله له : ( يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين   ) ، رجع فوقف في مقامه الأول . 
ثم قال الله له : ( اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء   ) أي : إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ; ولهذا قال : ( من غير سوء   ) أي : من غير برص . 
وقوله : ( واضمم إليك جناحك من الرهب   ) : قال مجاهد   : من الفزع . وقال قتادة   : من الرعب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم   وابن جرير   : مما حصل لك من خوفك من الحية . 
والظاهر أن المراد أعم من هذا ، وهو أنه أمر عليه السلام ، إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب ، وهي يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف . وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يديه على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجد ، أو يخف إن شاء الله ، وبه الثقة . 
قال ابن أبي حاتم   : حدثنا علي بن الحسين  ، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ الصالح  ، أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب  ، عن عبد الله بن مسلم  ، عن مجاهد  ، قال : كان موسى  عليه السلام ، قد ملئ قلبه رعبا من فرعون  ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، ففرغ الله ما كان في قلب موسى  عليه السلام ، وجعله في قلب فرعون  ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار  . 
وقوله : ( فذانك برهانان من ربك   ) يعني : إلقاءه العصا وجعلها حية تسعى ، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء - دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار ، وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه ; ولهذا قال : ( إلى فرعون وملئه   ) أي : وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع ، ( إنهم كانوا قوما فاسقين   ) أي : خارجين عن طاعة الله ، مخالفين لدين الله ، [ والله أعلم ] . 
				
						
						
