( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ( 58 ) وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( 59 ) ) .
[ ص: 248 ] يقول تعالى معرضا بأهل مكة في قوله : ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) أي : طغت وأشرت وكفرت نعمة الله ، فيما أنعم به عليهم من الأرزاق ، كما قال في الآية الأخرى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ) [ النحل 112 ، 113 ] ولهذا قال : ( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ) أي : دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم .
وقوله : ( وكنا نحن الوارثين ) أي : رجعت خرابا ليس فيها أحد .
وقد ذكر ابن أبي حاتم [ هاهنا ] عن ابن مسعود أنه سمع كعبا يقول لعمر : إن سليمان عليه السلام قال للهامة - يعني البومة - ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت : لأنه أخرج آدم بسببه من الجنة . قال : فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت : لأن الله أغرق قوم نوح به . قال : فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت : لأنه ميراث الله عز وجل ، ثم تلا ( وكنا نحن الوارثين ) .
ثم قال الله مخبرا عن عدله ، وأنه لا يهلك أحدا ظالما له ، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم ، ولهذا قال : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها ) وهي مكة ( رسولا يتلو عليهم آياتنا ) . فيه دلالة على أن النبي الأمي ، وهو محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، المبعوث من أم القرى ، رسول إلى جميع القرى ، من عرب وأعجام ، كما قال تعالى : ( لتنذر أم القرى ومن حولها ) [ الشورى : 7 ] ، وقال تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] ، وقال : ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] ، وقال : ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] . وتمام الدليل [ قوله ] ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ) [ الإسراء : 58 ] . فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة ، وقد قال : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] . فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى ; لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها . وثبت في الصحيحين عنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : . ولهذا ختم به الرسالة والنبوة ، فلا نبي بعده ولا رسول ، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة . " بعثت إلى الأحمر والأسود "
وقيل : المراد بقوله : ( حتى يبعث في أمها ) أي : أصلها وعظيمتها ، كأمهات الرساتيق والأقاليم . حكاه الزمخشري وغيرهما ، وليس ببعيد . وابن الجوزي ،