يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود ، صلوات الله وسلامه عليه ، مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن ، والجنود ذوي العدد والعدد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم ، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات ، والغاديات والرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات . وفي الصحيح أن يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ، ثم قال " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل أبي موسى الأشعري داود " . رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت ، رضي الله عنه . أبي موسى الأشعري
ومعنى قوله : ( أوبي ) أي : سبحي . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد .
وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة . وفي هذا نظر ، فإن التأويب في اللغة هو الترجيع ، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها .
وقال في كتابه " الجمل " في باب النداء منه : ( أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي يا جبال أوبي معه ) أي : سيري معه بالنهار كله ، والتأويب : سير النهار كله ، والإسآد : سير الليل كله . وهذا لفظه ، وهو غريب جدا لم أجده لغيره ، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة ، لكنه بعيد في معنى الآية هاهنا . والصواب أن المعنى في قوله تعالى : ( أوبي معه ) أي : رجعي معه مسبحة معه ، كما تقدم ، والله أعلم .
وقوله : ( وألنا له الحديد ) : قال ، الحسن البصري وقتادة ، وغيرهم : كان لا يحتاج أن يدخله نارا ولا يضربه بمطرقة ، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط; ولهذا قال : ( والأعمش أن اعمل سابغات ) وهي : الدروع . قال قتادة : وهو أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا ابن سماعة ، حدثنا ابن ضمرة ، عن ابن شوذب قال : كان داود ، عليه السلام ، يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم : ألفين له ولأهله ، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحوارى .
[ ص: 498 ] ( وقدر في السرد ) : هذا إرشاد من الله لنبيه داود ، عليه السلام ، في تعليمه صنعة الدروع .
قال مجاهد في قوله : ( وقدر في السرد ) : لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ، ولا تغلظه فيفصمها ، واجعله بقدر .
وقال : لا تغلظه فيفصم ، ولا تدقه فيقلق . وهكذا روي عن الحكم بن عتيبة قتادة ، وغير واحد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السرد : حلق الحديد . وقال بعضهم : يقال : درع مسرودة : إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
وقد ذكر في ترجمة الحافظ ابن عساكر داود ، عليه والسلام ، من طريق - وفيه كلام - عن إسحاق بن بشر أبي إلياس ، عن ما مضمونه : أن وهب بن منبه داود ، عليه السلام ، كان يخرج متنكرا ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحدا إلا أثنى عليه خيرا في عبادته وسيرته ومعدلته ، صلوات الله وسلامه عليه . قال وهب : حتى بعث الله ملكا في صورة رجل ، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره ، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته ، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال : ما هي ؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين ، يعني بيت المال ، فعند ذلك نصب داود ، عليه السلام ، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله ، فألان له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فعمل الدرع ، وهو أول من عملها ، فقال الله : ( أن اعمل سابغات وقدر في السرد ) يعني : مسامير الحلق ، قال : وكان يعمل الدرع ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها ، فتصدق بثلثها ، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها . وقال : إن الله أعطى داود شيئا لم يعطه غيره من حسن الصوت ، إنه كان إذا قرأ الزبور تسمع الوحش حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته . وكان شديد الاجتهاد ، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير ، وكأن قد أعطي سبعين مزمارا في حلقه .
وقوله : ( واعملوا صالحا ) أي : في الذي أعطاكم الله من النعم ، ( إني بما تعملون بصير ) أي : مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى علي من ذلك شيء .