( ثلة من الأولين    ( 13 ) وقليل من الآخرين   ( 14 ) على سرر موضونة   ( 15 ) متكئين عليها متقابلين   ( 16 ) يطوف عليهم ولدان مخلدون   ( 17 ) بأكواب وأباريق وكأس من معين   ( 18 ) لا يصدعون عنها ولا ينزفون   ( 19 ) وفاكهة مما يتخيرون   ( 20 ) ولحم طير مما يشتهون   ( 21 ) وحور عين   ( 22 ) كأمثال اللؤلؤ المكنون   ( 23 ) جزاء بما كانوا يعملون   ( 24 ) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما   ( 25 ) إلا قيلا سلاما سلاما   ( 26 ) ) . 
يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين أنهم ) ثلة ) أي : جماعة ( من الأولين وقليل من الآخرين   ) . وقد اختلفوا في المراد بقوله : ( الأولين ) ، و ) الآخرين )   . فقيل : المراد بالأولين : الأمم الماضية ، والآخرين : هذه الأمة . هذا رواية عن مجاهد  ، والحسن البصري  ، رواها عنهما ابن أبي حاتم   . وهو اختيار ابن جرير  ، واستأنس بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة  " . ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد . 
 [ ص: 518 ] ومما يستأنس به لهذا القول ، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا  محمد بن عيسى بن الطباع  ، حدثنا شريك  ، عن محمد بن عبد الرحمن  ، عن أبيه ، عن  أبي هريرة  ، قال : لما نزلت : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين   ) شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين   ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة - أو : شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني  " . 
ورواه الإمام أحمد  ، عن أسود بن عامر  ، عن شريك  ، عن محمد  ، بياع الملاء ، عن أبيه ، عن  أبي هريرة  ، فذكره . وقد روي من حديث جابر  نحو هذا ، ورواه الحافظ  ابن عساكر  من طريق هشام بن عمار   : حدثنا عبد ربه بن صالح  ، عن عروة بن رويم  ، عن  جابر بن عبد الله  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لما نزلت : ( فيومئذ وقعت الواقعة   ) ، ذكر فيها ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين   ) ، قال عمر   : يا رسول الله ، ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال : فأمسك آخر السورة سنة ، ثم نزل : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين   ) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عمر ، تعال فاسمع ما قد أنزل الله : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين   ) ، ألا وإن من آدم إلي ثلة ، وأمتي ثلة ، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " . 
هكذا أورده في ترجمة " عروة بن رويم   " ، إسنادا ومتنا ، ولكن في إسناده نظر . وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة  " الحديث بتمامه ، وهو مفرد في " صفة الجنة " ولله الحمد والمنة . وهذا الذي اختاره ابن جرير  هاهنا فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ; لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن ، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة . والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم ، والله أعلم . فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح ، وهو أن يكون المراد بقوله : ( ثلة من الأولين   ) أي : من صدر هذه الأمة ، ( وقليل من الآخرين   ) أي : من هذه الأمة . 
قال ابن أبي حاتم   : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح  ، حدثنا عفان  ، حدثنا عبد الله بن بكر المزني  ، سمعت الحسن   : أتى على هذه الآية : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون   ) فقال : أما السابقون ، فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين . 
ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد  ، حدثنا السري بن يحيى  قال : قرأ الحسن   : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين   ) ثلة ممن مضى من هذه الأمة . 
 [ ص: 519 ] وحدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري  ، حدثنا أبو هلال  ، عن  محمد بن سيرين  ، أنه قال في هذه الآية : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين   ) قال : كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة . فهذا قول الحسن   وابن سيرين  أن الجميع من هذه الأمة . ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها ، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها ; ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم   " الحديث بتمامه . 
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد   : حدثنا عبد الرحمن  ، حدثنا زياد أبو عمر  ، عن الحسن  ، عن  عمار بن ياسر  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره  " ، فهذا الحديث بعد الحكم بصحة إسناده ، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها ، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها ، والفضل للمتقدم . وكذلك الزرع الذي يحتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول ، واحتياج الزرع إليه آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ، ولا تعلق أساسه فيها ; ولهذا قال عليه السلام : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة " . وفي لفظ : " حتى يأتي أمر الله وهم كذلك  " . والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم ، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها . ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب . وفي لفظ : " مع كل ألف سبعون ألفا " . وفي آخر " مع كل واحد سبعون ألفا "  . 
وقد قال الحافظ  أبو القاسم الطبراني   : حدثنا  هشام بن مرثد الطبراني  ، حدثنا محمد - هو ابن إسماعيل بن عياش   - حدثني أبي ، حدثني ضمضم - يعني ابن زرعة   - عن شريح - هو ابن عبيد   - عن أبي مالك  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما والذي نفسي بيده ، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض ، تقول الملائكة : لما جاء مع محمد   - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما جاء مع الأنبياء ، عليهم السلام  " . 
وحسن أن يذكر هاهنا [ عند قوله : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين   ) ] الحديث الذي رواه الحافظ  أبو بكر البيهقي  في " دلائل النبوة " حيث قال : أخبرنا أبو نصر بن قتادة  ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر  ، حدثنا جعفر - [ هو ] ابن محمد بن المستفاض الفريابي   - حدثني أبو وهب الوليد بن عبد  [ ص: 520 ] الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني  ، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني  ، عن مسلمة بن عبد الله الجهني  ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي  ، عن ابن زمل الجهني   - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح قال ، وهو ثان رجله : " سبحان الله وبحمده . أستغفر الله ، إن الله كان توابا " سبعين مرة ، ثم يقول : " سبعين بسبعمائة ، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة " . ثم يقول ذلك مرتين ، ثم يستقبل الناس بوجهه ، وكان يعجبه الرؤيا ، ثم يقول : " هل رأى أحد منكم شيئا ؟ " قال ابن زمل : فقلت : أنا يا رسول الله . فقال : " خير تلقاه ، وشر توقاه ، وخير لنا ، وشر على أعدائنا ، والحمد لله رب العالمين . اقصص رؤياك " . فقلت : رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب ، والناس على الجادة منطلقين ، فبينما هم كذلك ، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله ، يرف رفيفا يقطر ماؤه ، فيه من أنواع الكلأ قال : وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا . قال : فكأني أنظر إليهم منطلقين . ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا ، فلما أشفوا على المرج كبروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث . ومضوا على ذلك . قال : ثم قدم عظم الناس ، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا : ( هذا خير المنزل ) . كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك ، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج ، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة ، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى ، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له . وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها ، كلكم تؤمونه تريدونه ، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف ، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها . قال : فامتقع لون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم سري عنه ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب ، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه . وأما المرج الذي رأيت ، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ، ولم تتعلق منا ، ولم نردها ولم تردنا . ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث ، ونجوا على ذلك . ثم جاء عظم الناس ، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون . وأما أنت ، فمضيت على طريقة صالحة ، فلن تزال عليها حتى تلقاني . وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة ، فالدنيا سبعة آلاف سنة ، أنا في آخرها ألفا . وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل ، فذلك موسى عليه السلام ، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه . والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، فذلك عيسى ابن مريم ، نكرمه لإكرام الله إياه . وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم ، كلنا نؤمه  [ ص: 521 ] ونقتدي به . وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة ، علينا تقوم ، لا نبي بعدي ، ولا أمة بعد أمتي " . قال : فما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل ، فيحدثه بها متبرعا . 
وقوله : ( على سرر موضونة    ) قال ابن عباس   : أي مرمولة بالذهب ، يعني : منسوجة به . وكذا قال مجاهد  ، وعكرمة  ،  وسعيد بن جبير  ، وزيد بن أسلم  ، وقتادة  ، والضحاك  ، وغيره . 
وقال  السدي   : مرمولة بالذهب واللؤلؤ . وقال عكرمة   : مشبكة بالدر والياقوت . وقال ابن جرير   : ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها ، وهو فعيل بمعنى مفعول ; لأنه مضفور ، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ . 
وقال : ( متكئين عليها متقابلين    ) أي : وجوه بعضهم إلى بعض ، ليس أحد وراء أحد . ( يطوف عليهم ولدان مخلدون   ) أي : مخلدون على صفة واحدة ، لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون ، ( بأكواب وأباريق وكأس من معين   ) ، أما الأكواب فهي : الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان . والأباريق : التي جمعت الوصفين . والكئوس : الهنابات ، والجميع من خمر من عين جارية معين ، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ ، بل من عيون سارحة . 
وقوله : ( لا يصدعون عنها ولا ينزفون   ) أي : لا تصدع رءوسهم ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة . 
وروى الضحاك  ، عن ابن عباس  ، أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول . فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال . 
وقال مجاهد  ، وعكرمة  ،  وسعيد بن جبير  ، وعطية  ، وقتادة  ،  والسدي   : ( لا يصدعون عنها   ) يقول : ليس لهم فيها صداع رأس . 
وقالوا في قوله : ( ولا ينزفون   ) أي : لا تذهب بعقولهم . 
وقوله : ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون   ) أي : ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار . 
وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها  ، ويدل على ذلك حديث " عكراش بن ذؤيب   " الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي  ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا  العباس بن الوليد النرسي  ، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية  ، حدثنا عبيد الله بن عكراش  ، عن أبيه عكراش بن ذؤيب  ، قال : بعثني بنو مرة  في صدقات أموالهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار ، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى ، قال : " من الرجل ؟ "  [ ص: 522 ] قلت : عكراش بن ذؤيب . قال : " ارفع في النسب " ، فانتسبت له إلى " مرة بن عبيد " ، وهذه صدقة " مرة بن عبيد " . فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : هذه إبل قومي ، هذه صدقات قومي . ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها . ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة ، فقال : " هل من طعام ؟ " فأتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر ، فجعل يأكل منها ، فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها ، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده اليسرى على يدي اليمنى ، فقال : " يا عكراش ، كل من موضع واحد ، فإنه طعام واحد " . ثم أتينا بطبق فيه تمر ، أو رطب - شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا - فجعلت آكل من بين يدي ، وجالت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطبق ، وقال : " يا عكراش ، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد " . ثم أتينا بماء ، فغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ، ثم قال : " يا عكراش ، هذا الوضوء مما غيرت النار "  . 
وهكذا رواه الترمذي  مطولا  وابن ماجه  جميعا ، عن  محمد بن بشار  ، عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل  ، به . وقال الترمذي   : غريب لا نعرفه إلا من حديثه . 
وقال الإمام أحمد   : حدثنا بهز بن أسد  وعفان   - وقال الحافظ أبو يعلى   : حدثنا شيبان   - قالوا : حدثنا  سليمان بن المغيرة  ، حدثنا ثابت  ، قال : قال أنس   : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبه الرؤيا ، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه ، فإذا أثني عليه معروفا ، كان أعجب لرؤياه إليه . فأتته امرأة فقالت : يا رسول الله ، رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة ، فأدخلت الجنة فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة ، فنظرت فإذا فلان بن فلان ، وفلان بن فلان ، فسمت اثني عشر رجلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث سرية قبل ذلك ، فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم ، فقيل : اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ - أو : البيذخ - قال : فغمسوا فيه ، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر ، فأكلوا من بسره ما شاءوا ، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا ، وأكلت معهم . فجاء البشير من تلك السرية ، فقال : كان من أمرنا كذا وكذا ، وأصيب فلان وفلان . حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة فقال : " قصي رؤياك " فقصتها ، وجعلت تقول : فجيء بفلان وفلان كما قال  . 
هذا لفظ أبي يعلى  ، قال الحافظ الضياء :  وهذا على شرط مسلم   . 
وقال الحافظ  أبو القاسم الطبراني   : حدثنا معاذ بن المثنى  ، حدثنا  علي بن المديني  ، حدثنا ريحان بن سعيد  ، عن  عباد بن منصور  ، عن أيوب  ، عن أبي قلابة  ، عن أبي أسماء  ، عن ثوبان  ، قال : قال  [ ص: 523 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة ، عادت مكانها أخرى  " . 
وقوله : ( ولحم طير مما يشتهون   ) ، قال  الإمام أحمد   : 
حدثنا سيار بن حاتم  ، حدثنا  جعفر بن سليمان الضبعي  ، حدثنا ثابت  ، عن أنس  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " إن طير الجنة كأمثال البخت ، يرعى في شجر الجنة   " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن هذه لطير ناعمة فقال : " أكلتها أنعم منها - قالها ثلاثا - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها " . تفرد به أحمد  من هذا الوجه . 
وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي  في كتابه " صفة الجنة " من حديث إسماعيل بن علي الخطبي  ، عن أحمد بن علي الخيوطي  ، عن عبد الجبار بن عاصم  ، عن عبد الله بن زياد  ، عن زرعة  ، عن نافع  ، عن ابن عمر  ، قال : ذكرت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طوبى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا بكر ، هل بلغك ما طوبى ؟ " قال : الله ورسوله أعلم . قال : " طوبى شجرة في الجنة ، ما يعلم طولها إلا الله ، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا  ، ورقها الحلل ، يقع عليها الطير كأمثال البخت " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن هناك لطيرا ناعما ؟ قال : " أنعم منه من يأكله ، وأنت منهم إن شاء الله "  . 
وقال قتادة  في قوله : ( ولحم طير مما يشتهون   ) : ذكر لنا أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إني أرى طيرها ناعمة كما أهلها ناعمون . قال : " من يأكلها - والله يا أبا بكر - أنعم منها ، وإنها لأمثال البخت ، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر  " . 
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا   : حدثني مجاهد بن موسى  ، حدثنا  معن بن عيسى  ، حدثني ابن أخي ابن شهاب  ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ;  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكوثر فقال : " نهر أعطانيه ربي عز وجل ، في الجنة أشد بياضا من اللبن  ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر " . فقال عمر : إنها لناعمة . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آكلها أنعم منها " . 
وكذا رواه الترمذي  عن عبد بن حميد  ، عن القعنبي  ، عن  محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب  ، عن أبيه ، عن أنس  ، وقال : حسن . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا  علي بن محمد الطنافسي  ، حدثنا أبو معاوية  ، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي  ، عن عطية العوفي  ، عن  أبي سعيد الخدري  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  [ ص: 524 ]  " إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة ، فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض ، فيخرج من كل ريشة - يعني لونا - أبيض من اللبن ، وألين من الزبد ، وأعذب من الشهد ، ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير  " . 
هذا حديث غريب جدا ، والوصافي  وشيخه ضعيفان . ثم قال ابن أبي حاتم   : 
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح   - كاتب الليث   - حدثني الليث  ، حدثنا خالد بن يزيد  ، عن سعيد بن أبي هلال  ، عن أبي حازم  عن عطاء  ، عن كعب  ، قال : إن طائر الجنة أمثال البخت ، يأكل مما خلق من ثمرات الجنة ، ويشرب من أنهار الجنة ، فيصطففن له ، فإذا اشتهى منها شيئا أتاه حتى يقع بين يديه ، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء .صحيح إلى كعب   . 
وقال الحسن بن عرفة   : حدثنا خلف بن خليفة  ، عن حميد الأعرج  ، عن عبد الله بن الحارث  ، عن  عبد الله بن مسعود  ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا   " . 
وقوله : ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون    ) قرأ بعضهم بالرفع ، وتقديره : ولهم فيها حور عين . وقراءة الجر تحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله ; لقوله : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين   ) ، كما قال ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم   ) [ المائدة : 6 ] ، وكما قال : ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق   ) [ الإنسان : 21 ] . والاحتمال الثاني : أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين ، ولكن يكون ذلك في القصور ، لا بين بعضهم بعضا ، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين ، والله أعلم . 
وقوله : ( كأمثال اللؤلؤ المكنون   ) أي : كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه ، كما تقدم في " سورة الصافات " ( كأنهن بيض مكنون   ) [ الصافات : 49 ] وقد تقدم في سورة " الرحمن " وصفهن أيضا ; ولهذا قال : ( جزاء بما كانوا يعملون   ) أي : هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل . 
ثم قال : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما   ) أي : لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا ، أي : غثا خاليا عن المعنى ، أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف ، كما قال : ( لا تسمع فيها لاغية   ) [ الغاشية : 11 ]  [ ص: 525 ] أي : كلمة لاغية ( ولا تأثيما   ) أي : ولا كلاما فيه قبح ، ( إلا قيلا سلاما سلاما   ) أي : إلا التسليم منهم بعضهم على بعض ، كما قال : ( تحيتهم فيها سلام   ) [ إبراهيم   : 23 ] وكلامهم أيضا سالم من اللغو والإثم . 
				
						
						
