( ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله  وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون   ( 9 ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون   ( 10 ) وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين   ( 11 ) ) 
إنما سميت الجمعة جمعة ; لأنها مشتقة من الجمع ، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار وفيه كمل جميع الخلائق ، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض . وفيه خلق آدم  وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها . وفيه تقوم الساعة . وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا الحسن بن عرفة  ، حدثنا عبيدة بن حميد  ، عن منصور  ، عن أبي معشر  ، عن إبراهيم  ، عن علقمة  ، عن قرثع الضبي  ، حدثنا سلمان  قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - : " يا سلمان  ما يوم الجمعة ؟ " . قلت : الله ورسوله أعلم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يوم جمع فيه أبواك - أو أبوكم  " 
وقد روي عن  أبي هريرة  من كلامه ، نحو هذا ، فالله أعلم . 
وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة . وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه ، واختار اليهود  يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق واختار النصارى  يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق ، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة ، كما أخرجه  البخاري  ، ومسلم  من حديث عبد الرزاق  ، عن معمر  ، عن  همام بن منبه  قال : هذا ما حدثنا  أبو هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا . ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع اليهود  غدا ، والنصارى  بعد غد  " لفظ  البخاري   . 
 [ ص: 120 ] 
وفي لفظ لمسلم   : " أضل الله من كان قبلنا فكان لليهود  يوم السبت ، وكان للنصارى  يوم الأحد . فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة ، المقضي بينهم قبل الخلائق  " . 
وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله   ) أي : اقصدوا واعمدوا واهتموا في مسيركم إليها ، وليس المراد بالسعي ها هنا المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن   ) [ الإسراء : 19 ] وكان  عمر بن الخطاب   وابن مسعود  رضي الله عنهما يقرآنها : " فامضوا إلى ذكر الله " . فأما المشي السريع إلى الصلاة  فقد نهي عنه ، لما أخرجاه في الصحيحين ، عن  أبي هريرة  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا  " . لفظ  البخاري  
وعن  أبي قتادة  قال : بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلى قال : " ما شأنكم ؟ " . قالوا : استعجلنا إلى الصلاة . قال : " فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا  " . أخرجاه 
وقال عبد الرزاق   : أخبرنا معمر  ، عن الزهري  ، عن  سعيد بن المسيب  ، عن  أبي هريرة  رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون ، وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا  " . 
رواه الترمذي  من حديث عبد الرزاق  كذلك ، وأخرجه من طريق  يزيد بن زريع  ، عن معمر  ، عن الزهري  ، عن أبي سلمة  ، عن  أبي هريرة  بمثله 
قال الحسن  أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع  . 
وقال قتادة  في قوله : ( فاسعوا إلى ذكر الله   ) يعني : أن تسعى بقلبك وعملك ، وهو المشي إليها ، وكان يتأول قوله تعالى : ( فلما بلغ معه السعي   ) [ الصافات : 102 ] أي : المشي معه . روي عن محمد بن كعب  ، وزيد بن أسلم  وغيرهما نحو ذلك . 
ويستحب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل  " 
 [ ص: 121 ] 
ولهما عن أبي سعيد  رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " غسل يوم الجمعة  واجب على كل محتلم  " 
وعن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده  " . رواه مسلم  
وعن جابر  رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم ، وهو يوم الجمعة  " . رواه أحمد  ،  والنسائي  ،  وابن حبان  
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا  يحيى بن آدم  ، حدثنا ابن المبارك  ، عن الأوزاعي  ، عن حسان بن عطية  ، عن  أبي الأشعث الصنعاني  ، عن أوس بن أوس الثقفي  قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر سنة ، أجر صيامها وقيامها  " . 
وهذا الحديث له طرق وألفاظ ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحسنه الترمذي  
وعن  أبي هريرة  رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر  " أخرجاه 
ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ، ويتطيب ويتسوك ، ويتنظف ويتطهر . وفي حديث أبي سعيد  المتقدم : " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، والسواك ، وأن يمس من طيب أهله  " . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا يعقوب  ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق  ، حدثني  محمد بن إبراهيم التيمي  ، عن عمران بن أبي يحيى  ، عن عبد الله بن كعب بن مالك  ، عن  أبي أيوب الأنصاري   : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله - إن كان عنده - ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع - إن بدا له - ولم يؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى  " 
وفي سنن أبي داود  ،  وابن ماجه  عن  عبد الله بن سلام  رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته  " 
 [ ص: 122 ] 
وعن عائشة  رضي الله عنها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النمار ، فقال : " ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته ، سوى ثوبي مهنته " . رواه ابن ماجه  
وقوله تعالى : ( إذا نودي للصلاة ) المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه ، فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين  عثمان بن عفان  رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس ، كما رواه  البخاري  رحمه الله حيث قال : حدثنا  آدم - هو ابن أبي إياس   - حدثنا ابن أبي ذئب  ، عن الزهري  ، عن السائب بن يزيد  قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبي بكر  ، وعمر  فلما كان عثمان  بعد زمن وكثر الناس ، زاد النداء الثاني على الزوراء  يعني : يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة  بقرب المسجد  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم  ، حدثنا  محمد بن راشد المكحولي  ، عن مكحول   : أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ، ثم تقام الصلاة ، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع والشراء إذا نودي به ، فأمر عثمان  رضي الله عنه ، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس  . 
وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار  دون النساء ، والعبيد ، والصبيان ويعذر المسافر ، والمريض ، وقيم المريض ، وما أشبه ذلك من الأعذار ، كما هو مقرر في كتب الفروع . 
وقوله : ( وذروا البيع   ) أي : اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة : ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني   . واختلفوا : هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا ؟ على قولين ، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم . 
وقوله : ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون   ) أي : ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم ، أي : في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون .
وقوله : ( فإذا قضيت الصلاة   ) أي : فرغ منها ، ( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله   ) لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع ، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله . كما كان عراك بن مالك  رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ،  [ ص: 123 ] فارزقني من فضلك ، وأنت خير الرازقين  . رواه ابن أبي حاتم   . 
وروي عن بعض السلف أنه قال : من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة ، بارك الله له سبعين مرة ، لقول الله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله   ) 
وقوله : ( واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون   ) أي : حال بيعكم وشرائكم ، وأخذكم ، وعطائكم اذكروا الله ذكرا كثيرا ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ; ولهذا جاء في الحديث : " من دخل سوقا من الأسواق فقال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير كتبت له ألف ألف حسنة ، ومحي عنه ألف ألف سيئة  " 
وقال مجاهد   : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا ، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا  . 
( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين   ( 11 ) ) 
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة  يومئذ ، فقال تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما    ) أي : على المنبر تخطب . هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم : أبو العالية  ، والحسن  ، وزيد بن أسلم  ، وقتادة   . 
وزعم مقاتل بن حيان   : أن التجارة كانت  لدحية بن خليفة  قبل أن يسلم ، وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما على المنبر إلا القليل منهم . وقد صح بذلك الخبر ، فقال  الإمام أحمد   : 
حدثنا ابن إدريس  ، عن حصين  ، عن  سالم بن أبي الجعد  ، عن جابر  قال : قدمت عير المدينة  ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها   ) 
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سالم  به 
وقال  الحافظ أبو يعلى   : حدثنا زكريا بن يحيى  ، حدثنا هشيم  ، عن حصين  ، عن  سالم بن أبي الجعد  ، وأبي سفيان  ، عن  جابر بن عبد الله  قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة  فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي  [ ص: 124 ] نارا " ونزلت هذه الآية : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما   ) وقال : كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما  . 
وفي قوله : ( وتركوك قائما   ) دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما   . وقد روى مسلم  في صحيحه عن  جابر بن سمرة  قال : كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس  . 
ولكن ها هنا شيء ينبغي أن يعلم وهو : أن هذه القصة قد قيل : إنها كانت لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود  في كتاب المراسيل : حدثنا محمود بن خالد  ، عن الوليد  ، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف  أنه سمع مقاتل بن حيان  يقول :  " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن  دحية بن خليفة  قد قدم بتجارة يعني : فانفضوا ، ولم يبق معه إلا نفر يسير  . 
وقوله : ( قل ما عند الله   ) أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة ( خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين   ) أي : لمن توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته . 
				
						
						
