( متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ( 13 ) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ( 14 ) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير ( 15 ) قوارير من فضة قدروها تقديرا ( 16 ) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ( 17 ) عينا فيها تسمى سلسبيلا ( 18 ) ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ( 19 ) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ( 20 ) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( 21 ) إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ( 22 ) )
يخبر تعالى عن ، وما أسبغ عليهم من الفضل العميم ، فقال : ( أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم متكئين فيها على الأرائك ) وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة " الصافات " ، وذكر الخلاف في الاتكاء : هل هو الاضطجاع ، أو التمرفق ، أو التربع أو التمكن في الجلوس ؟ وأن الأرائك هي السرر تحت الحجال .
وقوله : ( لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ) أي : ليس عندهم حر مزعج ، ولا برد مؤلم ، بل هي مزاج واحد دائم سرمدي ، ( لا يبغون عنها حولا ) [ الكهف : 108 ] .
[ ص: 291 ]
( ودانية عليهم ظلالها ) أي : قريبة إليهم أغصانها ، ( وذللت قطوفها تذليلا ) أي : متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه ، كأنه سامع طائع ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : ( وجنى الجنتين دان ) [ الرحمن : 54 ] وقال تعالى ( قطوفها دانية ) [ الحاقة : 23 ]
قال مجاهد : ( وذللت قطوفها تذليلا ) إن قام ارتفعت بقدره ، وإن قعد تدلت له حتى ينالها ، وإن اضطجع تدلت له حتى ينالها ، فذلك قوله : ( تذليلا )
وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد .
وقال مجاهد : أرض الجنة من ورق ، وترابها المسك ، وأصول شجرها من ذهب وفضة ، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت ، والورق والثمر بين ذلك ، فمن أكل منها قائما لم يؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه ، ومن أكل منها مضطجعا لم يؤذه .
وقوله : ( ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب ) أي : يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام ، وهي من فضة ، وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم .
وقوله : ( قوارير قوارير من فضة ) فالأول منصوب بخبر " كان " أي : كانت قوارير . والثاني منصوب إما على البدلية أو تمييز ; لأنه بينه بقوله : ( قوارير من فضة )
قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري ، وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج ، والقوارير لا تكون إلا من زجاج ، فهذه الأكواب هي من فضة ، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا .
قال ابن المبارك ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( قدروها تقديرا ) أي : على قدر ريهم ، لا تزيد عنه ولا تنقص ، بل هي معدة لذلك ، مقدرة بحسب ري صاحبها . هذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد ، ، وسعيد بن جبير وأبي صالح ، وقتادة ، ، وابن أبزى وعبد الله بن عبيد الله بن عمير ، وقتادة ، ، والشعبي وابن زيد . وقاله ابن جرير وغير واحد . وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( قدروها تقديرا ) قدرت للكف . وهكذا قال الربيع بن أنس . وقال الضحاك : على قدر أكف الخدام . وهذا لا ينافي القول الأول ، فإنها مقدرة في القدر والري .
وقوله : ( ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ) أي : ويسقون - يعني الأبرار أيضا - في هذه الأكواب ) كأسا ) أي : خمرا ، ( كان مزاجها زنجبيلا ) فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور [ ص: 292 ] وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل وهو حار ، ليعتدل الأمر ، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة . وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا ، كما قاله قتادة وغير واحد . وقد تقدم قوله : ( عينا يشرب بها عباد الله ) وقال هاهنا : ( عينا فيها تسمى سلسبيلا ) أي : الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا .
قال عكرمة : اسم عين في الجنة . وقال مجاهد : سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جريها .
وقال قتادة : ( عينا فيها تسمى سلسبيلا ) عين سلسة مستقيد ماؤها .
وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق . واختار هو أنها تعم ذلك كله ، وهو كما قال .
وقوله تعالى : ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ) أي : يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة ( مخلدون ) أي : على حالة واحدة مخلدون عليها ، لا يتغيرون عنها ، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن . ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم الأقرطة ، فإنما عبر عن المعنى بذلك ; لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير .
وقوله : ( إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ) أي : إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة ، وكثرتهم ، وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، حسبتهم لؤلؤا منثورا . ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .
قال قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم ، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه .
وقوله : ( وإذا رأيت ) أي : وإذا رأيت يا محمد ، ( ثم ) أي : هناك ، يعني في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور ، ( رأيت نعيما وملكا كبيرا ) أي : مملكة لله هناك عظيمة وسلطانا باهرا .
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها ، وآخر أهل الجنة دخولا إليها : . إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها
وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بما هو أعلى منزلة ، وأحظى عنده تعالى . " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه "
وقد روى هاهنا حديثا غريبا جدا فقال : حدثنا الطبراني علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن [ ص: 293 ] عمار الموصلي ، حدثنا عفيف بن سالم ، عن أيوب بن عتبة ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال : الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له رسول الله : " سل واستفهم " ، فقال : يا رسول الله ، فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به ، إني لكائن معك في الجنة ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده ، إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرون ألف حسنة " ، فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة - أو : نعم الله - فتكاد تستنفذ ذلك كله ، إلا أن يتغمده الله برحمته " . ونزلت هذه السورة : ( جاء رجل من هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) إلى قوله : ( وملكا كبيرا ) فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال : " نعم " ، فاستبكى حتى فاضت نفسه . قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده .
وقوله : ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ) أي : فيها الحرير ، ومنه سندس ، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان ، وهو مما يلي الظاهر ، كما هو المعهود في اللباس ( لباس أهل الجنة وحلوا أساور من فضة ) وهذه صفة الأبرار ، وأما المقربون فكما قال : ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) [ الحج : 23 ]
ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده : ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) أي : طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الردية ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [ فأذهب الله ] ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم .
وقوله : ( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) أي : يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا إليهم كقوله : ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) [ الحاقة : 24 ] وكقوله : ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) [ الأعراف : 43 ]
وقوله : ( وكان سعيكم مشكورا ) أي : جزاكم الله على القليل بالكثير .