[ ص: 416 ] تفسير سورة الليل وهي مكية . 
تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : " فهلا صليت ب " سبح اسم ربك الأعلى   " " والشمس وضحاها   " " والليل إذا يغشى   " ؟ " . 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( والليل إذا يغشى    ( 1 ) والنهار إذا تجلى   ( 2 ) وما خلق الذكر والأنثى   ( 3 ) إن سعيكم لشتى   ( 4 ) فأما من أعطى واتقى   ( 5 ) وصدق بالحسنى   ( 6 ) فسنيسره لليسرى   ( 7 ) وأما من بخل واستغنى   ( 8 ) وكذب بالحسنى   ( 9 ) فسنيسره للعسرى   ( 10 ) وما يغني عنه ماله إذا تردى   ( 11 ) ) 
قال  الإمام أحمد   : حدثنا  يزيد بن هارون  ، حدثنا شعبة ،  عن مغيرة ،  عن إبراهيم ،  عن علقمة   : أنه قدم الشام فدخل مسجد دمشق ، فصلى فيه ركعتين وقال : اللهم ، ارزقني جليسا صالحا . قال : فجلس إلى  أبي الدرداء  ، فقال له أبو الدرداء   : ممن أنت ؟ قال : من أهل الكوفة . قال : كيف سمعت ابن أم عبد  يقرأ : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى   ) ؟ قال علقمة   : " والذكر والأنثى " . فقال أبو الدرداء   : لقد سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما زال هؤلاء حتى شككوني . ثم قال : ثم ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره ، والذي أجير من الشيطان على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟  . 
وقد رواه  البخاري  هاهنا ومسلم ،  من طريق الأعمش ،  عن إبراهيم  قال : قدم أصحاب عبد الله  على  أبي الدرداء  ، فطلبهم فوجدهم ، فقال : أيكم يقرأ علي قراءة عبد الله  ؟ قالوا : كلنا ، قال : أيكم أحفظ ؟ فأشاروا إلى علقمة ،  فقال : كيف سمعته يقرأ : ( والليل إذا يغشى   ) ؟ قال : " والذكر والأنثى " . قال : أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدوني أن أقرأ : ( وما خلق الذكر والأنثى   ) والله لا أتابعهم  . 
هذا لفظ  البخاري   : هكذا قرأ ذلك ابن مسعود  ،  وأبو الدرداء   - ورفعه أبو الدرداء   - وأما الجمهور فقرأوا ذلك كما هو مثبت في المصحف الإمام العثماني  في سائر الآفاق : ( وما خلق الذكر والأنثى   )  [ ص: 417 ] فأقسم تعالى ب ( والليل إذا يغشى   ) أي : إذا غشي الخليقة بظلامه ، ( والنهار إذا تجلى   ) أي : بضيائه وإشراقه ، ( وما خلق الذكر والأنثى   ) كقوله : ( وخلقناكم أزواجا   ) [ النبأ : 8 ] ، وكقوله : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين   ) [ الذاريات : 49 ] . 
ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان القسم عليه أيضا متضادا ; ولهذا قال : ( إن سعيكم لشتى   ) أي : أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضا ومتخالفة ، فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا . 
قال الله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى   ) أي : أعطى ما أمر بإخراجه ، واتقى الله في أموره ، ( وصدق بالحسنى   ) أي : بالمجازاة على ذلك - قاله قتادة ،  وقال خصيف   : بالثواب . وقال ابن عباس  ، ومجاهد ،  وعكرمة ،   وأبو صالح  ، وزيد بن أسلم   : ( وصدق بالحسنى   ) أي : بالخلف  . وقال أبو عبد الرحمن السلمي  ، والضحاك   : ( وصدق بالحسنى   ) أي : بلا إله إلا الله  . وفي رواية عن عكرمة   : ( وصدق بالحسنى   ) أي : بما أنعم الله عليه  . وفي رواية عن  زيد بن أسلم   : ( وصدق بالحسنى   ) قال : الصلاة والزكاة والصوم . وقال مرة : وصدقة الفطر  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبو زرعة  ، حدثنا  صفوان بن صالح الدمشقي  ، حدثنا  الوليد بن مسلم  ، حدثنا زهير بن محمد  ، حدثني من سمع أبا العالية الرياحي  يحدث عن أبي بن كعب  قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسنى قال : " الحسنى : الجنة "  . 
وقوله : ( فسنيسره لليسرى   ) قال ابن عباس   : يعني للخير  . وقال  زيد بن أسلم   : يعني للجنة . 
وقال بعض السلف : من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها ; ولهذا قال تعالى : ( وأما من بخل   ) أي : بما عنده ،  ( واستغنى   ) قال عكرمة ،  عن ابن عباس   : أي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، - عز وجل -  . رواه ابن أبي حاتم   . 
( وكذب بالحسنى   ) أي : بالجزاء في الدار الآخرة . 
( فسنيسره للعسرى   ) أي : لطريق الشر ، كما قال تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون   ) [ الأنعام : 11 ] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله ، - عز وجل - يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان . وكل ذلك بقدر مقدر ، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة : 
رواية  أبي بكر الصديق  ، رضي الله عنه : قال  الإمام أحمد   : حدثنا  علي بن عياش  ، حدثني العطاف بن خالد  ، حدثني رجل من أهل البصرة ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق  ، عن أبيه قال : سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر  وهو يقول : قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف ؟ قال : " بل على أمر قد فرغ منه " .  [ ص: 418 ] قال : ففيم العمل يا رسول الله ؟ قال : " كل ميسر لما خلق له   "  . 
رواية علي ،  رضي الله عنه : قال  البخاري ،  حدثنا أبو نعيم   : حدثنا سفيان ،  عن الأعمش ،  عن سعد بن عبيدة  ، عن  أبي عبد الرحمن السلمي  ، عن  علي بن أبي طالب  قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد  في جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " . فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال : " اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " . قال : ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى   ) إلى قوله : ( للعسرى   )  . 
وكذا رواه من طريق شعبة   ووكيع ،  عن الأعمش ،  بنحوه ثم رواه عن  عثمان بن أبي شيبة  ، عن جرير ،  عن منصور ،  عن سعد بن عبيدة  عن أبي عبد الرحمن  ، عن  علي بن أبي طالب  ، رضي الله عنه : كنا في جنازة في بقيع الغرقد  ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال : " ما منكم من أحد - أو : ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة " . فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكل وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء ؟ فقال : " أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء " . ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى   ) الآية . 
وقد أخرجه بقية الجماعة ، من طرق ، عن سعد بن عبيدة  ، به . 
رواية عبد الله بن عمر   : وقال  الإمام أحمد   : حدثنا عبد الرحمن  ، حدثنا شعبة  عن عاصم بن عبيد الله  قال : سمعت  سالم بن عبد الله  يحدث عن ابن عمر   : قال : قال عمر   : يا رسول الله ، أرأيت ما نعمل فيه ؟ أفي أمر قد فرغ أو مبتدأ أو مبتدع ؟ قال : " فيما قد فرغ منه ، فاعمل يا ابن الخطاب  ، فإن كلا ميسر ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء "  . 
ورواه الترمذي  في القدر ، عن بندار ،  عن ابن مهدي  ، به وقال : حسن صحيح . 
حديث آخر من رواية جابر   : قال ابن جرير   : حدثني يونس ،  أخبرنا ابن وهب  ، أخبرني عمرو بن الحارث  ، عن  أبي الزبير  ، عن  جابر بن عبد الله  أنه قال : يا رسول الله ، أنعمل لأمر قد فرغ  [ ص: 419 ] منه ، أو لأمر نستأنفه ؟ فقال : " لأمر قد فرغ منه " . فقال سراقة   : ففيم العمل إذا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل عامل ميسر لعمله "  . 
ورواه مسلم  عن أبي الطاهر  ، عن ابن وهب  ، به . 
حديث آخر : قال ابن جرير   : حدثني يونس ،  حدثنا سفيان ،  عن  عمرو بن دينار  ، عن  طلق بن حبيب  ، عن  بشير بن كعب العدوي  قال : سأل غلامان شابان النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا يا رسول الله ، أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، أو في شيء يستأنف ؟ فقال : " بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير " . قالا ففيم العمل إذا ؟ قال : " اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له " . قالا فالآن نجد ونعمل  . 
رواية  أبي الدرداء   : قال  الإمام أحمد   : حدثنا  هيثم بن خارجة  ، حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة السلمي  ، عن  يونس بن ميسرة بن حلبس  ، عن أبي إدريس  ، عن  أبي الدرداء  قال : قالوا : يا رسول الله ، أرأيت ما نعمل ، أمر قد فرغ منه أم شيء نستأنفه ؟ قال : " بل أمر قد فرغ منه " . قالوا : فكيف بالعمل يا رسول الله ؟ قال : " كل امرئ مهيأ لما خلق له "  . 
تفرد به أحمد  من هذا الوجه . 
حديث آخر : قال ابن جرير   : حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة  ، حدثنا عبد الملك بن عمرو  ، حدثنا عباد بن راشد  ، عن قتادة ،  حدثني خليد العصري  ، عن  أبي الدرداء  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا " . وأنزل الله في ذلك القرآن : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى   )  . 
ورواه ابن أبي حاتم  ، عن أبيه ، عن ابن أبي كبشة  ، بإسناده مثله . 
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم   : حدثني أبو عبد الله الطهراني  ، حدثنا حفص بن عمر العداني  ، حدثنا الحكم بن أبان  عن عكرمة ،  عن ابن عباس   ; أن رجلا كان له نخل ، ومنها نخلة فرعها إلى دار رجل صالح فقير ذي عيال ، فإذا جاء الرجل فدخل داره وأخذ الثمر من نخلته ، فتسقط الثمرة فيأخذها صبيان الفقير فنزل من نخلته فنزع الثمرة من أيديهم ، وإن أدخل أحدهم  [ ص: 420 ] الثمرة في فمه أدخل أصبعه في حلق الغلام ونزع الثمرة من حلقه . فشكا ذلك الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اذهب " . ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة " فقال له : لقد أعطيت ، ولكن يعجبني ثمرها ، وإن لي لنخلا كثيرا ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها . فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صاحب النخلة . فقال الرجل : يا رسول الله ، إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتها أتعطيني بها ما أعطيته بها نخلة في الجنة ؟ قال : " نعم " . ثم إن الرجل لقي صاحب النخلة ، ولكلاهما نخل ، فقال له : أخبرك أن محمدا ،   [ قد ] أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة ، فقلت ، له : قد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها . فسكت عنه الرجل ، فقال له : أتراك إذا بعتها ؟ قال : لا إلا أن أعطى بها شيئا ، ولا أظنني أعطاه . قال : وما مناك بها ؟ قال : أربعون نخلة . فقال الرجل : لقد جئت بأمر عظيم ، نخلتك تطلب بها أربعين نخلة ؟! ثم سكتا وأنشأ في كلام [ آخر ] ثم قال : أنا أعطيتك أربعين نخلة ، فقال : أشهد لي إن كنت صادقا . فأمر بأناس فدعاهم فقال : اشهدوا أني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة بنخلته التي فرعها في دار فلان ابن فلان . ثم قال : ما تقول ؟ فقال صاحب النخلة : قد رضيت . ثم قال بعد : ليس بيني وبينك بيع لم نفترق قال له : قد أقالك الله ، ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة . فقال صاحب النخلة : قد رضيت على أن تعطيني الأربعين على ما أريد . قال : تعطينيها على ساق . ثم مكث ساعة ، ثم قال : هي لك على ساق وأوقف له شهودا وعد له أربعين نخلة على ساق ، فتفرقا ، فذهب الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن النخلة المائلة في دار فلان قد صارت لي ، فهي لك . فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرجل صاحب الدار فقال له : " النخلة لك ولعيالك " . قال عكرمة   : قال ابن عباس   : فأنزل الله - عز وجل - : ( والليل إذا يغشى   ) إلى قوله : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى    ) إلى آخر السورة . 
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وهو حديث غريب جدا . 
قال ابن جرير   : وذكر أن هذه الآية نزلت في  أبي بكر الصديق  ، رضي الله عنه : حدثني هارون بن إدريس الأصم  ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي  ، حدثنا محمد بن إسحاق  ، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق  ، عن  عامر بن عبد الله بن الزبير  قال : كان أبو بكر  يعتق على الإسلام بمكة ،  فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني ، أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك ؟! فقال : أي أبت ، إنما أريد - أظنه قال - ما عند الله : قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية  [ ص: 421 ] أنزلت فيه : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى   )  . 
وقوله : ( وما يغني عنه ماله إذا تردى   ) قال مجاهد   : أي إذا مات  . وقال أبو صالح  ،  ومالك  عن  زيد بن أسلم   : إذا تردى في النار . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					