فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ( 185 ) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( 186 ) )
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن ، كقوله : ( كل نفس ذائقة الموت كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرا كما كان أولا .
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية - أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ، ولهذا قال : ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ، حدثنا عبد العزيز الأويسي علي بن أبي علي اللهبي عن ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، رضي الله عنه ، قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية ، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ) علي بن أبي طالب كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) إن [ ص: 178 ] في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال : فأخبرني أبي أن جعفر بن محمد قال : أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر ، عليه السلام . علي بن أبي طالب
وقوله : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي : من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة ، فقد فاز كل الفوز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) .
هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة ، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم ، في صحيحه ، وابن حبان في مستدركه ، من حديث والحاكم محمد بن عمرو هذا . ورواه ابن مردويه [ أيضا ] من وجه آخر فقال :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، أنبأنا حميد بن مسعدة ، أنبأنا عمرو بن علي ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . قال : ثم تلا هذه الآية : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )
وتقدم عند قوله تعالى : ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ما رواه ، عن الإمام أحمد وكيع عن الأعمش ، عن ، عن زيد بن وهب عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمرو بن العاص . " من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه "
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) تصغيرا لشأن الدنيا ، وتحقيرا لأمرها ، وأنها [ ص: 179 ] دنيئة فانية قليلة زائلة ، كما قال تعالى : ( وقوله : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 16 ، 17 ] [ وقال تعالى : ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) [ الرعد : 26 ] وقال تعالى : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ] ) [ النحل : 96 ] . وقال تعالى : ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى ) [ القصص : 60 ] وفي الحديث : " " . والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بم ترجع إليه ؟
وقال قتادة في قوله : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) هي متاع ، هي متاع ، متروكة ، أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها ، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله .
وقوله : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) كقوله ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) [ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ] ) [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ، إن كان في دينه صلابة زيد في البلاء ( ويبتلى المؤمن على قدر دينه ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم .
هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا البخاري أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ، أن أسامة بن زيد أخبره بدر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي - ابن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عبدة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تغبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ، [ ص: 180 ] وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء ، إنه لا أحسن مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك . فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فعل به ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار ، عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قبل وقعة ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا [ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ] ) وقال تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبي - ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه ، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا .
فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .