( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون   ( 112 ) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون   تفسيرها ( 113 ) ) . 
يقول تعالى : وكما جعلنا لك - يا محمد   - أعداء يخالفونك ، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يهيدنك ذلك ، كما قال تعالى : ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك   ) [ آل عمران : 184 ] ، وقال تعالى : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا   ) [ الأنعام : 34 ] ، وقال تعالى : ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم   ) [ فصلت : 43 ] ، وقال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا   ) [ الفرقان : 43 ] .  [ ص: 319 ] وقال ورقة بن نوفل  لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي . 
وقوله : ( شياطين الإنس والجن   ) بدل من ) عدوا ) أي : لهم أعداء من شياطين الإنس والجن ، ومن هؤلاء وهؤلاء ، قبحهم الله ولعنهم . 
قال عبد الرزاق   : أخبرنا معمر  ، عن قتادة  في قوله تعالى ( شياطين الإنس والجن   ) قال : من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض ، قال قتادة   : وبلغني أن أبا ذر  كان يوما يصلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تعوذ يا أبا ذر  من شياطين الإنس والجن " فقال : أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم "  . 
وهذا منقطع بين قتادة  وأبي ذر  وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر  ، رضي الله عنه ، قال ابن جرير   : 
حدثنا المثنى  ، حدثنا أبو صالح  ، حدثني معاوية بن صالح  ، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب  وغيره من المشيخة ، عن ابن عائذ  ، عن أبي ذر  قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس ، قال ، فقال : " يا أبا ذر  ، هل صليت؟ " قال : لا يا رسول الله . قال : " قم فاركع ركعتين " قال : ثم جئت فجلست إليه ، فقال : " يا أبا ذر  ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ " قال : قلت : لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين؟ قال : " نعم ، هم شر من شياطين الجن  " 
وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا كما قال  الإمام أحمد   : 
حدثنا  وكيع  ، حدثنا المسعودي  ، أنبأني أبو عمر الدمشقي  ، عن عبيد بن الخشخاش  ، عن أبي ذر  قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فجلست فقال : " يا أبا ذر  هل صليت؟ " قلت : لا . قال : " قم فصل " قال : فقمت فصليت ، ثم جلست فقال : " يا أبا ذر  ، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن " قال : قلت يا رسول الله ، وللإنس شياطين؟ قال : " نعم "  . وذكر تمام الحديث بطوله . 
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه  في تفسيره ، من حديث  جعفر بن عون  ، ويعلى بن عبيد  ،  وعبيد الله بن موسى  ، ثلاثتهم عن المسعودي  ، به . 
 [ ص: 320 ] طريق أخرى عن أبي ذر   : قال ابن جرير   : حدثني المثنى  ، حدثنا الحجاج  ، حدثنا حماد  ، عن حميد بن هلال  ، حدثني رجل من أهل دمشق  ، عن عوف بن مالك  ، عن أبي ذر  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر  ، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ " قال : قلت يا رسول الله ، هل للإنس من شياطين؟ قال : " نعم "  . 
طريق أخرى للحديث : قال ابن أبي حاتم   : حدثنا محمد بن عوف الحمصي  ، حدثنا أبو المغيرة  ، حدثنا معان بن رفاعة  ، عن علي بن يزيد  ، عن القاسم  ، عن أبي أمامة  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر تعوذت من شياطين الجن والإنس؟ " قال : يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين؟ قال : " نعم ، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا  " 
فهذه طرق لهذا الحديث ، ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم . 
وقد روى ابن جرير   : حدثنا ابن وكيع  ، حدثنا أبو نعيم  ، عن شريك  ، عن سعيد بن مسروق  ، عن عكرمة   : ( شياطين الإنس والجن ) قال : ليس من الإنس شياطين ، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن   . 
قال : وحدثنا الحارث  ، حدثنا عبد العزيز  ، حدثنا إسرائيل  ، عن  السدي  ، عن عكرمة  في قوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا   ) قال : للإنسي شيطان ، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن ، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا  . 
وقال أسباط  ، عن  السدي  ، عن عكرمة  في قوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض ) في تفسير هذه الآية : أما شياطين الإنس ، فالشياطين التي تضل الإنس ، وشياطين الجن الذين يضلون الجن ، يلتقيان ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيعلم بعضهم بعضا  . 
ففهم ابن جرير  من هذا; أن المراد بشياطين الإنس عند عكرمة   والسدي   : الشياطين من الجن الذين يضلون الناس ، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم . ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة  ، وأما كلام  السدي  فليس مثله في هذا المعنى ، وهو محتمل ، وقد روى ابن أبي حاتم  نحو هذا ، عن ابن عباس  من رواية الضحاك  ، عنه ، قال : إن للجن شياطين يضلونهم - مثل شياطين الإنس  [ ص: 321 ] يضلونهم ، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن ، فيقول هذا لهذا : أضلله بكذا ، أضلله بكذا . فهو قوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا   ) . 
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر   : إن للإنس شياطين منهم ، وشيطان كل شيء مارده ، ولهذا جاء في صحيح مسلم  ، عن أبي ذر  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكلب الأسود شيطان  " ومعناه - والله أعلم - : شيطان في الكلاب . 
وقال  ابن جريج   : قال مجاهد  في تفسير هذه الآية : كفار الجن شياطين ، يوحون إلى شياطين الإنس ، كفار الإنس ، زخرف القول غرورا . 
وروى ابن أبي حاتم  ، عن عكرمة  قال : قدمت على المختار  فأكرمني وأنزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل ، قال : فقال لي : اخرج إلى الناس فحدث الناس . قال : فخرجت ، فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي؟ فقلت : الوحي وحيان ، قال الله تعالى : ( بما أوحينا إليك هذا القرآن   ) [ يوسف : 3 ] ، وقال الله تعالى : ( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا   ) قال : فهموا بي أن يأخذوني ، فقلت : ما لكم ذاك ، إني مفتيكم وضيفكم . فتركوني  . 
وإنما عرض عكرمة  بالمختار - وهو ابن أبي عبيد   - قبحه الله ، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي ، وقد كانت أخته صفية  تحت عبد الله بن عمر  وكانت من الصالحات ، ولما أخبر عبد الله بن عمر  أن المختار  يزعم أنه يوحى إليه قال : صدق ، قال الله تعالى : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم   ) [ الأنعام : 121 ] ، وقوله تعالى : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا   ) أي : يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف ، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره . 
( ولو شاء ربك ما فعلوه   ) أي : وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء . 
( فذرهم ) أي : فدعهم ، ( وما يفترون   ) أي : يكذبون ، أي : دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم . 
وقوله تعالى : ( ولتصغى إليه   ) أي : ولتميل إليه - قاله ابن عباس   - ( أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة   ) أي : قلوبهم وعقولهم وأسماعهم . 
وقال  السدي   : قلوب الكافرين ، ( وليرضوه ) أي : يحبوه ويريدوه . وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة ، كما قال تعالى : ( فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم   ) [ الصافات : 161 - 163 ] ، وقال تعالى : ( إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك   ) [ الذاريات : 8 ، 9 ] . وليقترفوا ما هم مقترفون  قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( وليكتسبوا ما هم مكتسبون   [ ص: 322 ] وقال  السدي  ، وابن زيد   : وليعملوا ما هم عاملون . 
				
						
						
