( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين    ( 55 ) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين   ( 56 ) ) . 
أرشد سبحانه وتعالى عباده إلى دعائه ، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم ، فقال تعالى : 
 [ ص: 428 ]  ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية   ) قيل معناه : تذللا واستكانة ، و ) خفية ) كما قال : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين   ) [ الأعراف : 205 ] وفي الصحيحين ، عن  أبي موسى الأشعري  رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم; فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إن الذي تدعونه سميع قريب " الحديث  . 
وقال  ابن جريج  ، عن  عطاء الخراساني  ، عن ابن عباس  في قوله : ( تضرعا وخفية   ) قال : السر  . 
وقال ابن جرير   : ( تضرعا ) تذللا واستكانة لطاعته . ) وخفية ) يقول : بخشوع قلوبكم ، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه ، لا جهارا ومراءاة  . 
وقال  عبد الله بن المبارك  ، عن المبارك بن فضالة  ، عن الحسن  قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن ، وما يشعر به الناس . وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ، وما يشعر به الناس . وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به . ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا  . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين   ) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال : ( إذ نادى ربه نداء خفيا   ) [ مريم : 3 ] . 
وقال  ابن جريج   : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء  ، ويؤمر بالتضرع والاستكانة ، ثم روي عن  عطاء الخراساني  ، عن ابن عباس  في قوله : ( إنه لا يحب المعتدين   ) في الدعاء ولا في غيره .  . 
وقال أبو مجلز   : ( إنه لا يحب المعتدين   ) لا يسأل منازل الأنبياء  . 
وقال الإمام أحمد بن حنبل  ، رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي  ، حدثنا شعبة ،  عن زياد بن مخراق  ، سمعت أبا نعامة  عن مولى لسعد;  أن سعدا  سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم ، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها . فقال : لقد سألت الله خيرا كثيرا ، وتعوذت بالله من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء " وقرأ هذه الآية : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين   )  [ ص: 429 ] وإن بحسبك أن تقول : " اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل " 
ورواه أبو داود  ، من حديث شعبة ،  عن زياد بن مخراق  ، عن أبي نعامة  ، عن ابن لسعد ،  عن سعد ،  فذكره والله أعلم . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا عفان ،  حدثنا حماد بن سلمة  ، أخبرنا الجريري ،  عن أبي نعامة   : أن عبد الله بن مغفل  سمع ابنه يقول : اللهم ، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : يا بني ، سل الله الجنة ، وعذ به من النار; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور  " 
وهكذا رواه ابن ماجه  ، عن أبي بكر بن أبي شيبة  ، عن عفان  به . وأخرجه أبو داود  ، عن موسى بن إسماعيل  ، عن حماد بن سلمة  ، عن سعيد بن إياس الجريري  ، عن أبي نعامة - واسمه : قيس بن عباية الحنفي البصري   - وهو إسناد حسن لا بأس به ، والله أعلم . 
وقوله تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها   )  ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض ، وما أضره بعد الإصلاح ! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ، ثم وقع الإفساد بعد ذلك ، كان أضر ما يكون على العباد . فنهى الله تعالى عن ذلك ، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه ، فقال : ( وادعوه خوفا وطمعا   ) أي : خوفا مما عنده من وبيل العقاب ، وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب . 
ثم قال : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين   )  أي : إن رحمته مرصدة للمحسنين ، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي   ) [ الأعراف : 156 ، 157 ] . 
وقال : ( قريب ) ولم يقل : " قريبة " ; لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب ، أو لأنها مضافة إلى الله ، فلهذا قال : قريب من المحسنين . 
وقال  مطر الوراق   : تنجزوا موعود الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين ، رواه ابن أبي حاتم   . 
 [ ص: 430 ] 
				
						
						
