( الذين يؤمنون بالغيب    ( 3 ) ) 
قال أبو جعفر الرازي  ، عن  العلاء بن المسيب بن رافع  ، عن أبي إسحاق  ، عن أبي الأحوص ،  عن عبد الله ،  قال : الإيمان  التصديق . 
 [ ص: 165 ] 
وقال علي بن أبي طلحة  وغيره ، عن ابن عباس ،   ( يؤمنون ) يصدقون . 
وقال معمر  عن الزهري   : الإيمان العمل . 
وقال أبو جعفر الرازي  ، عن الربيع بن أنس   : ( يؤمنون ) يخشون . 
قال ابن جرير  وغيره : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا قال : وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان ، الذي هو تصديق القول بالعمل ، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل . قلت : أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض ، وقد يستعمل في القرآن ، والمراد به ذلك ، كما قال تعالى : ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين   ) [ التوبة : 61 ] ، وكما قال إخوة يوسف  لأبيهم : ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين   ) [ يوسف : 17 ] ، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال ؛ كقوله : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات   ) [ الانشقاق : 25 ، والتين : 6 ] ، فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا . 
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة ، بل قد حكاه  الشافعي   وأحمد بن حنبل  وأبو عبيد  وغير واحد إجماعا : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة . 
ومنهم من فسره بالخشية ، لقوله تعالى : ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب   ) [ الملك : 12 ] ، وقوله : ( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب   ) [ ق : 33 ] ، والخشية خلاصة الإيمان والعلم ، كما قال تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء   ) [ فاطر : 28 ] . 
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد . 
قال أبو جعفر الرازي ،  عن الربيع بن أنس ،  عن أبي العالية ،  في قوله : ( يؤمنون بالغيب   ) قال : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كله . 
وكذا قال قتادة بن دعامة   . 
وقال  السدي ،  عن أبي مالك ،  وعن أبي صالح ،  عن ابن عباس ،  وعن  مرة الهمداني  عن ابن مسعود ،  وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة ، وأمر النار ، وما ذكر في القرآن . 
وقال محمد بن إسحاق ،  عن محمد بن أبي محمد ،  عن عكرمة ،  أو عن سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس   : ( بالغيب ) قال : بما جاء منه ، يعني : من الله تعالى . 
وقال  سفيان الثوري ،  عن عاصم ،  عن زر ،  قال : الغيب : القرآن . 
 [ ص: 166 ] 
وقال عطاء بن أبي رباح   : من آمن بالله فقد آمن بالغيب . 
وقال إسماعيل بن أبي خالد   : ( يؤمنون بالغيب   ) قال : بغيب الإسلام . 
وقال  زيد بن أسلم   : ( الذين يؤمنون بالغيب   ) قال : بالقدر . فكل هذه متقاربة في معنى واحد ؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به . 
وقال  سعيد بن منصور   : حدثنا أبو معاوية ،  عن الأعمش ،  عن عمارة بن عمير ،  عن عبد الرحمن بن يزيد  قال : كنا عند  عبد الله بن مسعود  جلوسا ، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، قال : فقال عبد الله   : إن أمر محمد  صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : ( الم  ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين  الذين يؤمنون بالغيب   ) إلى قوله : ( المفلحون ) [ البقرة : 1 - 5 ] . 
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ،  وابن مردويه ،   والحاكم  في مستدركه ، من طرق ، عن الأعمش ،  به . 
وقال  الحاكم   : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . 
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه  [ الإمام ] أحمد ،  حدثنا أبو المغيرة ،  أخبرنا الأوزاعي ،  حدثني أسيد بن عبد الرحمن ،  عن خالد بن دريك ،  عن ابن محيريز ،  قال : قلت لأبي جمعة   : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم ، أحدثك حديثا جيدا : تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح ،  فقال : يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك . قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني  . 
طريق أخرى : قال أبو بكر بن مردويه  في تفسيره : حدثنا عبد الله بن جعفر  ، حدثنا إسماعيل  عن  عبد الله بن مسعود  ، حدثنا عبد الله بن صالح  ، حدثنا معاوية بن صالح  ، عن صالح بن جبير  ، قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري  ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس  ، ليصلي فيه ، ومعنا يومئذ  رجاء بن حيوة  ، فلما انصرف خرجنا نشيعه ، فلما أراد الانصراف قال : إن لكم جائزة وحقا ؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل  عاشر عشرة ، فقلنا : يا رسول الله ، هل من قوم أعظم أجرا منا ؟ آمنا بك واتبعناك؟ قال :  [ ص: 167 ] ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجرا مرتين  . 
ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة ،  عن مرزوق بن نافع  ، عن صالح بن جبير  ، عن أبي جمعة  ، بنحوه . 
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث ، كما قررته في أول شرح البخاري ؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا . 
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي   : حدثنا  إسماعيل بن عياش الحمصي  ، عن المغيرة بن قيس التميمي  ، عن عمرو بن شعيب  ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟ . قالوا : الملائكة . قال : وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ . قالوا : فالنبيون . قال : وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ . قالوا : فنحن . قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها  . 
قال  أبو حاتم الرازي   : المغيرة بن قيس البصري  منكر الحديث . 
قلت : ولكن قد روى أبو يعلى  في مسنده ، وابن مردويه  في تفسيره ،  والحاكم  في مستدركه ، من حديث محمد بن أبي حميد  ، وفيه ضعف ، عن  زيد بن أسلم  ، عن أبيه ، عن عمر ،  عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله أو نحوه . وقال  الحاكم   : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالك  مرفوعا ، والله أعلم . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي  ، حدثنا إسحاق بن إدريس  ، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري  ، أخبرني جعفر بن محمود  ، عن جدته تويلة بنت أسلم  ، قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة  ، فاستقبلنا مسجد إيلياء  ، فصلينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام  ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون البيت الحرام . 
قال إبراهيم   : فحدثني رجال من بني حارثة   : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال : أولئك قوم  [ ص: 168 ] آمنوا بالغيب  . 
هذا حديث غريب من هذا الوجه . 
				
						
						
