[ ص: 216 ]  ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون   ( 30 ) ) 
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة   ) أي : واذكر يا محمد  إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك . وحكى ابن جرير  عن بعض أهل العربية [ وهو أبو عبيدة   ] أنه زعم أن " إذ " هاهنا زائدة ، وأن تقدير الكلام : وقال ربك . ورده ابن جرير   . 
قال القرطبي   : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج   : هذا اجتراء من أبي عبيدة   . 
( إني جاعل في الأرض خليفة   ) أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض   ) [ الأنعام : 165 ] وقال ( ويجعلكم خلفاء الأرض   ) [ النمل : 62 ] . وقال ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون   ) [ الزخرف : 60 ] . وقال ( فخلف من بعدهم خلف   ) [ مريم : 59 ] . [ وقرئ في الشاذ : " إني جاعل في الأرض خليقة " حكاه  الزمخشري  وغيره ونقلها القرطبي  عن زيد بن علي   ] . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم   - عليه السلام - فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي  إلى ابن مسعود   وابن عباس  وجميع أهل التأويل ، وفي ذلك نظر ، بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه فخر الدين الرازي  في تفسيره وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم  عينا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء    ) فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون [ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم ، ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي   ] أو أنهم قاسوهم على من سبق ، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك . 
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا . قال قتادة   : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : ( أتجعل فيها ) الآية ] وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : ( إني أعلم ما لا تعلمون   ) أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم  [ ص: 217 ] الصديقون والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ، والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم . 
وقد ثبت في الصحيح : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون . وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر  ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام : يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون   ) وقيل : معنى قوله جوابا لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون   ) أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب لقولهم : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك   ) فقال : ( إني أعلم ما لا تعلمون   ) أي : من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به . وقيل : بل تضمن قولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون   ) طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون   ) من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم . ذكرها فخر الدين  مع غيرها من الأجوبة ، والله أعلم . 
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه : 
قال ابن جرير   : حدثني القاسم بن الحسن  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني الحجاج  ، عن جرير بن حازم  ، ومبارك  ، عن الحسن  وأبي بكر  ، عن الحسن  وقتادة  ، قالوا : قال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) قال لهم : إني فاعل . وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك . 
وقال  السدي   : استشار الملائكة في خلق آدم    . رواه ابن أبي حاتم  ، قال : وروي عن قتادة  نحوه . وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن  وقتادة  في رواية ابن جرير  أحسن ، والله أعلم . 
( في الأرض ) قال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة  ، حدثنا حماد  حدثنا عطاء بن السائب  ، عن عبد الرحمن بن سابط  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وأول من طاف بالبيت الملائكة ، فقال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة  . 
وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مدرج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك . 
( خليفة ) قال  السدي  في تفسيره عن أبي مالك  وعن أبي صالح  ، عن ابن عباس   - وعن مرة  ، عن ابن مسعود  ، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة   )  [ ص: 218 ] قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . 
قال ابن جرير   : فكان تأويل الآية على هذا : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم  ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه . وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه . 
قال ابن جرير   : وإنما [ كان تأويل الآية على هذا ] معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا . 
قال : والخليفة الفعيلة من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال تعالى : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون   ) [ يونس : 14 ] . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ؛ لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا . 
قال : وكان محمد بن إسحاق  يقول في قوله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم . 
قال ابن جرير   : وحدثنا أبو كريب  ، حدثنا عثمان بن سعيد  ، حدثنا بشر بن عمارة  ، عن أبي روق  ، عن الضحاك  ، عن ابن عباس  ، قال : أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم وأسكنه إياها ، فلذلك قال : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) . 
وقال  سفيان الثوري  ، عن عطاء بن السائب  ، عن ابن سابط   : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء   ) قال : يعنون [ به ] بني آدم . 
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم   : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق ، قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها [ ويسفك الدماء   ] ؟ ! 
وقد تقدم ما رواه  السدي  ، عن ابن عباس   وابن مسعود  وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرية آدم ، فقالت الملائكة ذلك . وتقدم آنفا ما رواه الضحاك  ، عن ابن عباس   : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا  علي بن محمد الطنافسي  ، حدثنا أبو معاوية  ، حدثنا  [ ص: 219 ] الأعمش  ، عن بكير بن الأخنس  ، عن مجاهد  ، عن عبد الله بن عمرو  ، قال : كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فقال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون  . 
وقال أبو جعفر الرازي  ، عن الربيع  ، عن أبي العالية  في قوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) إلى قوله : ( وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون   ) [ البقرة : 33 ] قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها   ) كما أفسدت الجن ( ويسفك الدماء   ) كما سفكوا  . 
قال ابن أبي حاتم   : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح  ، حدثنا سعيد بن سليمان  ، حدثنا  مبارك بن فضالة  ، حدثنا الحسن  ، قال : قال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة   ) قال لهم : إني فاعل . فآمنوا بربهم ، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء   ) ؟ ( قال إني أعلم ما لا تعلمون   ) 
قال الحسن   : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون ، فقالوا بالقول الذي علمهم . 
وقال عبد الرزاق  ، عن معمر  ، عن قتادة  في قوله : ( أتجعل فيها من يفسد فيها   ) كان [ الله ] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها   ) . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي  ، حدثنا ابن المبارك  ، عن معروف ، يعني ابن خربوذ المكي  ، عمن سمع أبا جعفر  محمد بن علي  يقول : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء   ) قالا ذلك استطالة على الملائكة  . 
وهذا أثر غريب . وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر  ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم . ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ،  [ ص: 220 ] وهو خلاف السياق . 
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم   - أيضا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن أبي عبد الله  ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير  ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك   ) كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم  . 
وهذا - أيضا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم . 
قال  ابن جريج   : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم  ، فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء   ) 
وقال ابن جرير   : وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء   ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك ، بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة ، فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ! ؟ فأجابهم ربهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون   ) يعني : أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا . 
قال : وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ، مسألة [ الملائكة ] استخبار منهم ، لا على وجه الإنكار ، واختاره ابن جرير   . 
وقال سعيد  عن قتادة  قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة   ) فاستشار الملائكة في خلق آدم  ، فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء   ) وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون    ) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، قال : وذكر لنا عن ابن عباس  أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال : ( ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين   ) [ فصلت : 11 ] . 
وقوله تعالى : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك   ) قال عبد الرزاق  ، عن معمر  ، عن قتادة   : التسبيح : التسبيح ، والتقديس : الصلاة . 
وقال  السدي  ، عن أبي مالك  وعن أبي صالح  ، عن ابن عباس   - وعن مرة  ، عن ابن مسعود   - وعن ناس من الصحابة : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك   ) قال : يقولون : نصلي لك . 
وقال مجاهد   : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك   ) قال : نعظمك ونكبرك . 
 [ ص: 221 ] 
وقال الضحاك   : التقديس : التطهير . 
وقال محمد بن إسحاق   : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك    ) قال : لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه . 
وقال ابن جرير   : التقديس : هو التعظيم والتطهير ، ومنه قولهم : سبوح قدوس ، يعني بقولهم : سبوح ، تنزيه له ، وبقولهم : قدوس ، طهارة وتعظيم له . ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذا : ( ونحن نسبح بحمدك   ) ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ) ونقدس لك ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك . 
[ وفي صحيح مسلم  عن أبي ذر  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده وروى  البيهقي  عن عبد الرحمن بن قرط  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى  ] . 
( قال إني أعلم ما لا تعلمون   ) قال قتادة   : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وسيأتي عن ابن مسعود   وابن عباس  وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : ( قال إني أعلم ما لا تعلمون   ) 
وقد استدل القرطبي  وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه  ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . 
والإمامة تنال بالنص  كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر  ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق  بعمر بن الخطاب  ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر  ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين  الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه  الشافعي   . 
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة  ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل : بلى ويكفي شاهدان . وقال الجبائي   : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر  رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف  ، ومعقود له وهو عثمان  ، واستنبط  [ ص: 222 ] وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم . 
ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح  ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض  ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟  فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وهل له أن يعزل نفسه  ؟ فيه خلاف ، وقد عزل الحسن بن علي  نفسه وسلم الأمر إلى معاوية  لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك . 
فأما نصب إمامين في الأرض  أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان  . وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين  ، وقالت الكرامية   : يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي  ومعاوية  إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف ، وحكى إمام الحرمين  عن الأستاذ أبي إسحاق  أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين  في ذلك ، قلت : وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق  والفاطميين بمصر  والأمويين بالمغرب   . 
				
						
						
