لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ، شرع يذكرهم - أيضا - بما أسبغ عليهم من النعم ، فقال : ( وظللنا عليكم الغمام ) وهو جمع غمامة ، سمي بذلك لأنه يغم السماء ، أي : يواريها ويسترها . وهو السحاب الأبيض ، ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس . كما رواه وغيره عن النسائي ابن عباس في حديث الفتون ، قال : ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، ، والربيع بن أنس وأبي مجلز ، والضحاك ، ، نحو قول والسدي ابن عباس .
وقال الحسن وقتادة : ( وظللنا عليكم الغمام ) [ قال ] كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس .
وقال ابن جرير قال آخرون : وهو غمام أبرد من هذا ، وأطيب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وظللنا عليكم الغمام ) قال : ليس بالسحاب ، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن إلا لهم .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى بن إبراهيم ، عن أبي حذيفة .
[ ص: 267 ]
وكذا رواه الثوري ، وغيره ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وكأنه يريد ، والله أعلم ، أنه ليس من زي هذا السحاب ، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا ، كما قال في تفسيره عن سنيد ، عن حجاج بن محمد قال : قال ابن جريج ابن عباس : ( وظللنا عليكم الغمام ) قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه في قوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) [ البقرة : 210 ] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر . قال ابن عباس : وكان معهم في التيه .
وقوله : ( وأنزلنا عليكم المن ) اختلفت عبارات المفسرين في المن : ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار ، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا .
وقال مجاهد : المن : صمغة . وقال عكرمة : المن : شيء أنزله الله عليهم مثل الطل ، شبه الرب الغليظ .
وقال : قالوا : يا السدي موسى ، كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن ، فكان يسقط على شجر الزنجبيل .
وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك ؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق ، حتى إذا كان يوم سادسه ، ليوم جمعته ، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء ، وهذا كله في البرية .
وقال الربيع بن أنس : المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه .
وقال - وسئل عن المن - فقال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي . وهب بن منبه
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن . عامر وهو الشعبي
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه العسل .
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت ، حيث قال :
فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا فسناها عليهم غاديات
وترى مزنهم خلايا وخورا عسلا ناطفا وماء فراتا
وحليبا ذا بهجة مرمورا
[ ص: 268 ]
فالناطف : هو السائل ، والحليب المرمور : الصافي منه .
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن ، فمنهم من فسره بالطعام ، ومنهم من فسره بالشراب ، والظاهر ، والله أعلم ، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب ، وغير ذلك ، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد ، فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة ، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر ، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده ؛ والدليل على ذلك قول البخاري :
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك ، عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : . الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين
وهذا الحديث رواه ، عن الإمام أحمد سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك ، وهو ابن عمير ، به .
وأخرجه الجماعة في كتبهم ، إلا أبا داود ، من طرق عن ، به . وقال عبد الملك ، وهو ابن عمير الترمذي : حسن صحيح ، ورواه البخاري ومسلم من رواية والنسائي الحكم ، عن الحسن العرني ، عن عمرو بن حريث ، به .
وقال الترمذي : حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ، قالا حدثنا ومحمود بن غيلان سعيد بن عامر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين
تفرد بإخراجه الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو ، وإلا من حديث سعيد بن عامر ، عنه ، وفي الباب عن سعيد بن زيد ، وأبي سعيد وجابر .
كذا قال ، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، من طريق آخر ، عن ، فقال : حدثنا أبي هريرة أحمد بن الحسن بن أحمد البصري ، حدثنا أسلم بن سهل ، حدثنا القاسم بن عيسى ، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن ، عن قتادة عن ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي ، يكنى بأبي محمد
[ ص: 269 ] ، وقيل : أبو سليمان المؤدب قال فيه : روى عن الحافظ أبو أحمد بن عدي قتادة أشياء لا يتابع عليها .
ثم قال [ الترمذي ] حدثنا ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبي ، عن معاذ بن هشام قتادة ، عن ، عن شهر بن حوشب : أبي هريرة . أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : الكمأة جدري الأرض ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم
وهذا الحديث قد رواه ، عن النسائي ، به . وعنه ، عن محمد بن بشار غندر ، عن شعبة ، عن ، عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، به . وعن أبي هريرة ، عن محمد بن بشار عبد الأعلى ، عن خالد الحذاء ، عن . بقصة الكمأة فقط . شهر بن حوشب
وروى - أيضا - النسائي من حديث وابن ماجه ، عن محمد بن بشار أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن ، عن مطر الوراق شهر : بقصة العجوة عند ، وبالقصتين عند النسائي ابن ماجه .
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب فإنه لم يسمعه منه ، بدليل ما رواه وأبي هريرة في الوليمة من سننه ، عن النسائي علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى ، عن ، عن سعيد بن أبي عروبة قتادة ، عن ، عن شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم ، عن ، قال : أبي هريرة . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة ، وبعضهم يقول جدري الأرض ، فقال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين
وروي عن عن شهر بن حوشب أبي سعيد وجابر ، كما قال : الإمام أحمد
حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن ، عن جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب جابر بن عبد الله ، قالا قال 1 270 وأبي سعيد الخدري
رسول الله صلى الله عليه وسلم : . الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم
قال في الوليمة أيضا : حدثنا النسائي ، حدثنا محمد بن بشار محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب أبي سعيد وجابر ، رضي الله عنهما ، أن [ ص: 270 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . ثم رواه - أيضا - ، الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين من طرق ، عن وابن ماجه الأعمش ، عن أبي بشر ، عن شهر ، عنهما ، به .
وقد رويا - أعني النسائي - من حديث وابن ماجه سعيد بن مسلم كلاهما عن الأعمش ، عن عن جعفر بن إياس ، عن أبي نضرة أبي سعيد ، زاد : [ وحديث ] النسائي جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين
ورواه ابن مردويه ، عن أحمد بن عثمان ، عن عباس الدوري ، عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش ، كابن ماجه .
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا أحمد بن عثمان ، حدثنا عباس الدوري ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ، عن ، عن المنهال بن عمرو عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن ، قال : أبي سعيد الخدري . خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت ، فقال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين
وأخرجه ، عن النسائي عمرو بن منصور ، عن الحسن بن الربيع ثم [ رواه ] ابن مردويه . رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام ، عن ، عن عبيد الله بن موسى شيبان عن الأعمش به ، وكذا رواه عن النسائي أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن [ به ] . عبيد الله بن موسى
وقد روى من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه :
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا حمدون بن أحمد ، حدثنا حوثرة بن أشرس ، حدثنا حماد ، عن شعيب بن الحبحاب عن أنس : . أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، فقال بعضهم : نحسبه الكمأة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم
[ ص: 271 ]
وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة . وقد روى الترمذي من طريقه شيئا من هذا ، والله أعلم . والنسائي
[ وقد ] روي عن شهر ، عن ابن عباس ، كما رواه - أيضا - في الوليمة ، عن النسائي أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد ، عن عبد الله بن عون الخراز ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن عبد الجليل بن عطية ، عن شهر ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عبد الله بن عباس . الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين
فقد اختلف - كما ترى فيه - على ، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها ، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم ، فإن الأسانيد إليه جيدة ، وهو لا يتعمد الكذب ، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم من رواية شهر بن حوشب سعيد بن زيد .
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السلوى طائر شبيه بالسمانى ، كانوا يأكلون منه .
وقال في خبر ذكره عن السدي أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : السلوى : طائر يشبه السمانى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا قرة بن خالد ، عن جهضم ، عن ابن عباس ، قال : السلوى : هو السمانى .
وكذا قال مجاهد ، ، والشعبي والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، ، رحمهم الله . والربيع بن أنس
وعن عكرمة : أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور ، أو نحو ذلك .
وقال قتادة : السلوى من طير إلى الحمرة ، تحشرها عليهم الريح الجنوب . وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه .
وقال : السلوى : طير سمين مثل الحمام ، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت . وفي رواية عن وهب بن منبه وهب ، قال : سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام ، اللحم ، فقال الله : لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض ، فأرسل عليهم ريحا ، فأذرت عند مساكنهم السلوى ، وهو السمانى مثل ميل في ميل قيد رمح إلى السماء فخبئوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز .
[ ص: 272 ]
وقال : لما دخل السدي بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى ، عليه السلام : كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على الشجر الزنجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه ، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ، فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب ، فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام . فقالوا : هذا الظل ، فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان ، ولا ينخرق لهم ثوب ، فذلك قوله تعالى : ( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ) وقوله ( وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم ) [ البقرة : 60 ] .
وروي عن ، وهب بن منبه نحو ما قاله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . السدي
وقال ، عن سنيد حجاج ، عن ، قال : قال ابن جريج ابن عباس : خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن ، قال : فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا . ابن جريج
[ قال ابن عطية : السلوى : طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي في قوله : إنه العسل ، وأنشد في ذلك مستشهدا :
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال : فظن أن السلوى عسلا قال القرطبي : دعوى الإجماع لا تصح ؛ لأن المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير قال : إنه العسل ، واستدل ببيت الهذلي هذا ، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة ؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان ، وقال الجوهري : السلوى العسل ، واستشهد ببيت الهذلي - أيضا - ، والسلوانة بالضم خرزة ، كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر :
شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان ، وقال بعضهم : السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه ( مفرج ) ، قالوا : والسلوى جمع بلفظ - الواحد - أيضا ، كما يقال : سمانى للمفرد والجمع وويلى كذلك ، وقال الخليل واحده سلواة ، وأنشد :
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر
[ ص: 273 ]
وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوي ، نقله كله القرطبي ] .
وقوله تعالى : ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) أمر إباحة وإرشاد وامتنان . وقوله : ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ البقرة : 57 ] ، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا ، كما قال : ( كلوا من رزق ربكم واشكروا له ) [ سبأ : 15 ] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم ، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات ، وخوارق العادات ، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم ، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته ، منها عام تبوك ، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد ، لم يسألوا خرق عادة ، ولا إيجاد أمر ، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم ، فجاء قدر مبرك الشاة ، فدعا [ الله ] فيه ، وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم ، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى ، فجاءت سحابة فأمطرتهم ، فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم . ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر . فهذا هو الأكمل في الاتباع : المشي مع قدر الله ، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ( 58 ) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 59 ) )
يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك ، السدي ، والربيع بن أنس وقتادة ، [ وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى : ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) الآيات ] . [ المائدة : 21 - 24 ]
وقال آخرون : هي أريحا [ ويحكى عن ابن عباس ] وهذا بعيد ؛ لأنها ليست على طريقهم ، وهم قاصدون وعبد الرحمن بن زيد بيت المقدس لا أريحا [ وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس ] . وهذا كان لما خرجوا من [ ص: 274 ] التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - ( سجدا ) أي : شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، ورد بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال .
قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) أي ركعا .
وقال ابن جرير : حدثنا ، حدثنا محمد بن بشار أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ، وعن المنهال بن عمرو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) قال : ركعا من باب صغير .
رواه من حديث الحاكم سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ، به . وزاد : فدخلوا من قبل استاههم .
[ وقال : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الحسن البصري الرازي ، وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ] .
وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة .
وقال [ ابن عباس ] ومجاهد ، ، والسدي وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس ، [ وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية ] .
وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال ، عن السدي أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن : وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا . عبد الله بن مسعود
وقوله : ( وقولوا حطة ) قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : مغفرة ، استغفروا .
وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، ، نحوه . والربيع بن أنس
وقال الضحاك عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : قولوا : هذا الأمر حق ، كما قيل لكم .
وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله .
وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) [ ص: 275 ] فكتب إليه : أن أقروا بالذنب .
وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
( نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ) هذا جواب الأمر ، أي : إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات .
وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [ سورة النصر ] فسره بعض الصحابة بكثرة ، وفسره الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك رضي الله عنه . ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعى إليه روحه الكريمة أيضا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح - فتح عمر [ بن الخطاب ] مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنه الخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله ، يشكر الله على ذلك . ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي صلاة الفتح ، فاستحبوا ، كما فعل للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله رضي الله عنه لما دخل سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) قال : حدثني البخاري محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن ، عن همام بن منبه - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . قيل لبني إسرائيل : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) فدخلوا يزحفون على استاههم ، فبدلوا وقالوا : حطة : حبة في شعرة
ورواه ، عن النسائي محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد ، عن ابن المبارك ببعضه مسندا ، في قوله تعالى : ( حطة ) قال : فبدلوا . فقالوا : حبة .
[ ص: 276 ]
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن أنه سمع همام بن منبه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبا هريرة وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) فبدلوا ، ودخلوا الباب يزحفون على استاههم ، فقالوا : حبة في شعرة . قال الله لبني إسرائيل : (
وهذا حديث صحيح ، رواه عن البخاري إسحاق بن نصر ، ومسلم عن محمد بن رافع . عن والترمذي عبد بن حميد ، كلهم عن عبد الرزاق ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال محمد بن إسحاق : كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ، وعمن لا أتهم ، عن أبي هريرة ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا - يزحفون على استاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعيرة
وقال أبو داود : حدثنا ، وحدثنا أحمد بن صالح سليمان بن داود ، حدثنا ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم : أبي سعيد الخدري ) ثم قال قال الله لبني إسرائيل : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم أبو داود : حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن ، مثله . هشام بن سعد
هكذا رواه منفردا به في كتاب الحروف مختصرا .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز ، حدثنا ، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : أبي سعيد الخدري ذات الحنظل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) . سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ، أجزنا في ثنية يقال لها :
وقال ، عن سفيان الثوري أبي إسحاق ، عن البراء : ( سيقول السفهاء من الناس ) [ البقرة : 142 ] قال اليهود : قيل لهم : ادخلوا الباب سجدا ، قال : ركعا ، وقولوا : حطة : أي مغفرة ، فدخلوا على [ ص: 277 ] استاههم ، وجعلوا يقولون : حنطة حمراء فيها شعيرة ، فذلك قول الله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
وقال الثوري ، عن ، عن السدي أبي سعد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن ابن مسعود : ( وقولوا حطة ) فقالوا : حنطة حبة حمراء فيها شعيرة ، فأنزل الله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم )
وقال أسباط ، عن ، عن السدي مرة ، عن ابن مسعود أنه قال : إنهم قالوا : هطي سمعاتا أزبة مزبا فهي بالعربية : حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء ، فذلك قوله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم )
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ( ادخلوا الباب سجدا ) ركعا من باب صغير ، فدخلوا من قبل استاههم ، وقالوا : حنطة ، فهو قوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم )
وهكذا روي عن عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، ، والربيع بن أنس ويحيى بن رافع .
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق من الحديث أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل ، فأمروا أن يدخلوا سجدا ، فدخلوا يزحفون على استاههم من قبل استاههم رافعي رؤوسهم ، وأمروا أن يقولوا : حطة ، أي : احطط عنا ذنوبنا ، فاستهزؤوا فقالوا : حنطة في شعرة . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم ، وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال : ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب .
وهكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، ، والسدي والحسن ، وقتادة ، أنه العذاب . وقال أبو العالية : الرجز الغضب . وقال الشعبي : الرجز : إما الطاعون ، وإما البرد . وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ، عن وكيع سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن سعد - يعني ابن أبي وقاص - عن ، سعد بن مالك ، وأسامة بن زيد ، رضي الله عنهم ، قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وخزيمة بن ثابت . الطاعون رجز عذاب عذب به من كان [ ص: 278 ] قبلكم
وهكذا رواه من حديث النسائي به . وأصل الحديث في الصحيحين من حديث سفيان الثوري حبيب بن أبي ثابت : إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها الحديث .
قال ابن جرير : أخبرني ، عن يونس بن عبد الأعلى ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : . وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين ، من حديث إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم الزهري ، ومن حديث مالك ، عن محمد بن المنكدر ، ، عن وسالم أبي النضر عامر بن سعد ، بنحوه .