قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : حذر هؤلاء العابدين غيري ، والعادلين بي الآلهة والأوثان ، سخطي لا أحل بهم عقوبتي فأهلكهم ، كما أهلكت من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم ، فكثيرا ما أهلكت قبلهم من أهل قرى عصوني وكذبوا رسلي وعبدوا غيري ( فجاءها بأسنا بياتا ) ، يقول : فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلا قبل أن يصبحوا أو جاءتهم " قائلين " ، يعني : نهارا في وقت القائلة .
وقيل : " وكم " لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المثلاث ، بتكذيبهم رسله وخلافهم عليه . وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد ، كما قال : الفرزدق
[ ص: 300 ]
كم عمة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت علي عشاري
فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه " أهلك قرى " ، فما في خبره عن إهلاكه " القرى " من الدليل على إهلاكه أهلها ؟
قيل : إن " القرى " لا تسمى " قرى " ولا " القرية " " قرية " ، إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم ، ففي إهلاكها إهلاك من فيها من أهلها .
وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن " القرية " ، والمراد به أهلها .
قال أبو جعفر : والذي قلنا في ذلك أولى بالحق ، لموافقته ظاهر التنزيل المتلو .
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) ؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسخطه بها ؟ فكيف قيل : " أهلكناها فجاءها " ؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها ، فما وجه مجيء ذلك قوما قد هلكوا وبادوا ، ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم ؟
قيل : إن لذلك من التأويل وجهين ، كلاهما صحيح واضح منهجه :
أحدهما : أن يكون معناه : " وكم من قرية أهلكناها " ، بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من البينات والهدى ، واختيارها اتباع أمر أوليائها المغويتها عن طاعة ربها " فجاءها بأسنا " إذ فعلت ذلك " بياتا أو هم قائلون " ، فيكون " إهلاك الله إياها " ، خذلانه لها عن طاعته ، ويكون " مجيء بأس الله إياهم " ، جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم . [ ص: 301 ]
والآخر منهما : أن يكون " الإهلاك " هو " البأس " بعينه ، فيكون في ذكر " الإهلاك " الدلالة على ذكر " مجيء البأس " ، وفي ذكر " مجيء البأس " الدلالة على ذكر " الإهلاك " .
وإذا كان ذلك كذلك ، كان سواء عند العرب ، بدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس ، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك . وذلك كقولهم : " زرتني فأكرمتني " ، إذ كانت " الزيارة " هي " الكرامة " ، فسواء عندهم قدم " الزيارة " وأخر " الكرامة " ، أو قدم " الكرامة " وأخر " الزيارة " فقال : " أكرمتني فزرتني " .
وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفا ، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحا ، وأن معنى ذلك : وكم من قرية أهلكناها ، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا . وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل ، ولا من خبر يجب التسليم له . وإذا خلا القول من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجب التسليم لها ، كان بينا فساده .
وقال آخر منهم أيضا : معنى " الفاء " في هذا الموضع معنى " الواو " . وقال : تأويل الكلام : وكم من قرية أهلكناها ، وجاءها بأسنا بياتا . وهذا قول لا معنى له ، إذ كان ل " الفاء " عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام ، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم ، ما وجد إلى ذلك سبيل ، أولى من صرفها إلى غيره .
فإن قال : وكيف قيل : ( فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) ، وقد علمت أن الأغلب من شأن " أو " في الكلام ، اجتلاب الشك ، وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟ [ ص: 302 ]
قيل : إن تأويل ذلك خلاف ما إليه ذهبت . وإنما معنى الكلام : وكم من قرية أهلكناها فجاء بعضها بأسنا بياتا ، وبعضها وهم قائلون . ولو جعل مكان " أو " في هذا الموضع " الواو " ، لكان الكلام كالمحال ، ولصار الأغلب من معنى الكلام : أن القرية التي أهلكها الله جاءها بأسه بياتا وفي وقت القائلة . وذلك خبر عن البأس أنه أهلك من قد هلك ، وأفنى من قد فني . وذلك من الكلام خلف . ولكن الصحيح من الكلام هو ما جاء به التنزيل ، إذ لم يفصل القرى التي جاءها البأس بياتا ، من القرى التي جاءها ذلك قائلة . ولو فصلت ، لم يخبر عنها إلا بالواو .
وقيل : " فجاءها بأسنا " خبرا عن " القرية " أن البأس أتاها ، وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية . ولو قيل : " فجاءهم بأسنا بياتا " ، لكان صحيحا فصيحا ، ردا للكلام إلى معناه ، إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها ، وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب نحو من الذي نال سكانها . وقد رجع في قوله : ( أو هم قائلون ) ، إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها ، لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان ، وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها .
ولو قيل : " أو هي قائلة " ، كان صحيحا ، إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام .
فإن قال قائل : أوليس قوله : ( أو هم قائلون ) ، خبرا عن الوقت الذي أتاهم فيه بأس الله من النهار؟
قيل : بلى! [ ص: 303 ]
فإن قال : أوليس المواقيت في مثل هذا تكون في كلام العرب بالواو الدال على الوقت؟
قيل : إن ذلك ، وإن كان كذلك ، فإنهم قد يحذفون من مثل هذا الموضع ، استثقالا للجمع بين حرفي عطف ، إذ كان " أو " عندهم من حروف العطف ، وكذلك " الواو " ، فيقولون : " لقيتني مملقا أو أنا مسافر " ، بمعنى : أو وأنا مسافر ، فيحذفون " الواو " وهم مريدوها في الكلام لما وصفت .