اختلف أهل التأويل في المعني بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الآخر : عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا [ ص: 588 ] أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) نزلت في الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة قال : وقال والوليد بن عتبة على : إني لأول ، أو من أول من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى .
حدثنا علي بن سهل قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم بالله قسما : لنزلت هذه الآية في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ( والوليد بن عتبة هذان خصمان اختصموا في ربهم ) . . . إلى آخر الآية ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . . إلى آخر الآية .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا محمد بن محبب قال : ثنا سفيان عن عن منصور بن المعتمر هلال بن يساف قال : نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثني سلمة بن الفضل محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن قال : نزلت هؤلاء الآيات : ( عطاء بن يسار هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في الذين تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة . إلى قوله ( والوليد بن عتبة وهدوا إلى صراط الحميد ) .
قال : ثنا جرير عن منصور عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : والله لأنزلت هذه الآية : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة رحمة الله عليهم وشيبة وعتبة
وقال آخرون : ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان ، بل الفريق الآخر أهل [ ص: 589 ] الكتاب . والوليد بن عتبة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا . وكان ذلك خصومتهم في ربهم .
وقال آخرون منهم : بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أي ملة كانوا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح وأبي قزعة عن الحسين قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم .
قال ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد : مثل الكافر والمؤمن . قال : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم . ابن جريج
حدثنا أبو كريب قال : ثنا أبو بكر بن عياش قال : كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث .
وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية : الجنة والنار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة عن جابر عن عكرمة في ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة : [ ص: 590 ] خلقني الله لرحمته ، فقد قص الله عليك من خبرهما ما تسمع .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : عنى بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين ، وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والآخر : أهل معصية له ، قد حق عليه العذاب ، فقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) ثم قال : ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) وقال الله ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ) ; فكان بينا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن أبي ذر إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما روي عنه ، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب ، وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم .
فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه .
وقوله : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار .
كما حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد في قوله : [ ص: 591 ] ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الآنية أحمى وأشد حرا منه .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار . وقوله : ( يصب من فوق رءوسهم الحميم ) يقول : يصب على رءوسهم ماء مغلي .
كما حدثنا قال : ثنا محمد بن المثنى إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال : ثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد عن أبي السمح عن ابن جحيرة عن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أبي هريرة " . إن الحميم ليصب على رءوسهم ، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهي الصهر ، ثم يعاد كما كان
حدثني قال : ثنا محمد بن المثنى يعمر بن بشر قال : ثنا ابن المبارك قال : أخبرنا سعيد بن زيد عن أبي السمح عن ابن جحيرة عن عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : " أبي هريرة " . فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه
وكان بعضهم يزعم أن قوله ( ولهم مقامع من حديد ) من المؤخر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، ولهم مقامع من حديد يصب من فوق رءوسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصب فيه الحميم الذي انتهى حره فيقطع بطنه . والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا يدل على خلاف ما قال هذا القائل ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صب على رءوسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رءوسهم قبل صب الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 592 ] " " معنى : ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل . إن الحميم ينفذ الجمجمة
وقوله : ( يصهر به ما في بطونهم والجلود ) يقول : يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم ما في بطونهم من الشحوم ، وتشوى جلودهم منه فتتساقط ، والصهر : هو الإذابة ، يقال منه : صهرت الألية بالنار : إذا أذبتها أصهرها صهرا; ومنه قول الشاعر :
تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس ولا ينصهر
ومنه قول الراجز :
شك السفافيد الشواء المصطهر
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( يصهر به ) قال : يذاب إذابة .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد مثله . قال ( يصهر به ) قال : ما قطع لهم من العذاب . ابن جريج
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة : ( يصهر به ما في بطونهم ) قال : يذاب به ما في بطونهم .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة مثله .
[ ص: 593 ] حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) . . . إلى قوله : ( يصهر به ما في بطونهم والجلود ) يقول : يسقون ما إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعيد بن جبير قال : قال هارون : إذا عام أهل النار ، وقال جعفر : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فيأكلون منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مر بهم يعرفهم ، يعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش ، فيستغيثوا ، فيغاثوا بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود و ( يصهر به ما في بطونهم ) يعني أمعاءهم ، وتساقط جلودهم ، ثم يضربون بمقامع من حديد ، فيسقط كل عضو على حاله ، يدعون بالويل والثبور . وقوله : ( ولهم مقامع من حديد ) تضرب رءوسهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار حتى ترجعهم إليها . وقوله : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) يقول : كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغم والكرب ردوا إليها .
كما حدثنا مجاهد بن موسى قال : ثنا قال : أخبرنا جعفر بن عون الأعمش عن قال : النار سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : ( أبي ظبيان كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها ، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع ، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع : ( ذوقوا عذاب الحريق ) . وعنى بقوله : ( وذوقوا عذاب الحريق ) ويقال لهم ذوقوا عذاب النار ، وقيل عذاب الحريق والمعنى : المحرق ، كما قيل : العذاب الأليم ، بمعنى المؤلم .