يقول تعالى ذكره : ( ولما ورد ) موسى ( ماء مدين وجد عليه أمة ) يعني : جماعة ( من الناس يسقون ) نعمهم ومواشيهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي وجد عليه أمة من الناس يسقون ) يقول : كثرة من الناس يسقون .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أمة من الناس ) قال : أناسا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وقع إلى أمة من الناس يسقون بمدين أهل نعم وشاء .
حدثنا علي بن موسى وابن بشار ، قالا : ثنا أبو داود ، قال : أخبرنا عمران القطان ، قال : ثنا أبو حمزة عن ابن عباس ، في قوله : ( ولما ورد ماء مدين ) قال علي بن موسى : قال : مثل ماء جوابكم هذا ، يعني المحدثة . وقال ابن بشار : مثل محدثتكم هذه ، يعني جوابكم هذا .
وقوله : ( ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) يقول : ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء ، امرأتين تذودان ، يعني بقوله : ( تذودان ) تحبسان غنمهما ; يقال منه : ذاد فلان غنمه وماشيته : إذا أراد شيء من ذلك يشذ ويذهب ، فرده ومنعه يذودها ذودا .
وقال بعض أهل العربية من الكوفيين : لا يجوز أن يقال : ذدت الرجل بمعنى : حبسته ، إنما يقال ذلك للغنم والإبل .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " " فقد جعل الذود صلى الله عليه وسلم في الناس ، ومن الذود قول إني [ ص: 552 ] لبعقر حوضي أذود الناس عنه بعصاي سويد بن كراع :
أبيت على باب القوافي كأنما أذود بها سربا من الوحش نزعا
وقول آخر :
وقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصا تذود
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( تذودان ) يقول : تحبسان .
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) يعني بذلك أنهما حابستان .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( امرأتين تذودان ) قال : حابستين .
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) يقول : تحبسان غنمهما .
واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان ، فقال بعضهم : كانتا تذودان غنمهما عن الماء ، حتى يصدر عنه مواشي الناس ، ثم يسقيان ماشيتهما لضعفهما . [ ص: 553 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قوله : ( امرأتين تذودان ) قال : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا وتخلو لهما البئر .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( ووجد من دونهم امرأتين ) يعني دون القوم تذودان غنمهما عن الماء ، وهو ماء مدين .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تذودان الناس عن غنمهما .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) قال : أي حابستين شاءهما تذودان الناس عن شائهما .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه ( تذودان ) قال : تذودان الناس عن غنمهما .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله : ( ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) على أن ذلك كذلك ، وذلك أنهما إنما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء ، إذ سألهما موسى عن ذودهما ، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس ، كان لا شك أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس ، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يصدر الرعاء .
وقوله : ( قال ما خطبكما ) يقول تعالى ذكره : قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس ، هلا تسقونها مع مواشي الناس ، والعرب تقول للرجل : ما خطبك ؟ بمعنى : ما أمرك وحالك ، كما قال الراجز :
يا عجبا ما خطبه وخطبي
[ ص: 554 ]وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال لهما : ( ما خطبكما ) معتزلتين لا تسقيان مع الناس .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وجد لهما رحمة ، ودخلته فيهما خشية ، لما رأى من ضعفهما ، وغلبة الناس على الماء دونهما ، فقال لهما : ما خطبكما : أي ما شأنكما .
وقوله : ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) يقول جل ثناؤه : قالت المرأتان لموسى : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، لأنا لا نطيق أن نسقي ، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلت مواشي الرعاء في الحوض ، والرعاء : جمع راع ، والراعي جمعه رعاء ورعاة ورعيان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قال موسى للمرأتين : ( ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) : أي لا نستطيع أن نسقي حتى يسقي الناس ، ثم نتبع فضلاتهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قوله : ( ابن جريج ، حتى يصدر الرعاء ) قال : تنتظران تسقيان من فضول ما في الحياض حياض الرعاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال ( وأبونا شيخ كبير ) لا يقدر أن يمس ذلك من نفسه ، ولا يسقي ماشيته ، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( حتى يصدر الرعاء ) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز سوى أبي جعفر القارئ ، وعامة قراء العراق سوى أبي عمرو : ( يصدر الرعاء ) بضم الياء ، [ ص: 555 ] وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو بفتح الياء من يصدر الرعاء عن الحوض . وأما الآخرون فإنهم ضموا الياء ، بمعنى : أصدر الرعاء مواشيهم ، وهما عندي قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : ( وأبونا شيخ كبير ) يقولان : لا يستطيع من الكبر والضعف أن يسقي ماشيته .
وقوله : ( فسقى لهما ) ذكر أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حجر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ، ثم استسقى فسقى لهما ماشيتهما منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : فتح لهما عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما منها .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن بنحوه ، وزاد فيه : قال ابن جريج : حجرا كان لا يطيقه إلا عشرة رهط . ابن جريج
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن شريح ، قال : انتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة رجال ، فرفعه وحده .
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن قال : رحمهما السدي ، موسى حين ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها ، حتى يرفعوها ، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض .
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( فسقى لهما ) فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كانتا أول الرعاء ريا ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، وقال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : تصدق عليهما نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فسقى لهما ، فلم يلبث أن أروى غنمهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أخذ دلوهما موسى ، ثم تقدم إلى السقاء بفضل قوته ، فزاحم القوم على الماء حتى أخرهم عنه ، ثم سقى لهما .