أما أهل عمان فنبغ فيهم رجل يقال له : ذو التاج . لقيط بن مالك الأزدي ، وكان تسامى في الجاهلية الجلندي ، فادعى النبوة أيضا ، وتابعه الجهلة من أهل عمان ، فتغلب عليها وقهر جيفرا وعبادا ، وألجأهما إلى أطرافها ، من نواحي الجبال والبحر ، فبعث جيفر إلى الصديق ، فأخبره الخبر واستجاشه ، فبعث إليه الصديق بأميرين ، وهما حذيفة بن محصن الحميري ، وعرفجة البارقي من الأزد ; حذيفة إلى عمان ، وعرفجة إلى مهرة ، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا [ ص: 481 ] ويبتدئا بعمان ، وحذيفة هو الأمير ، فإذا ساروا إلى بلاد مهرة فعرفجة الأمير .
وقد قدمنا أن لما بعثه عكرمة بن أبي جهل الصديق إلى مسيلمة وأتبعه بشرحبيل ابن حسنة ، عجل عكرمة وناهض مسيلمة قبل مجيء شرحبيل ; ليفوز بالظفر وحده ، فناله من مسيلمة قرح والذين معه ، فتقهقر حتى جاء خالد بن الوليد ، فقهر مسيلمة ، كما تقدم ، وكتب إليه الصديق يلومه على تسرعه ، قال : لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء . وأمره أن يلحق بحذيفة وعرفجة إلى عمان وكل منكم أمير على خيله ، وحذيفة ما دمتم بعمان فهو أمير الناس ، فإذا فرغتم فاذهبوا إلى مهرة ، فإذا فرغتم منها فاذهب إلى اليمن وحضرموت فكن مع المهاجر بن أبي أمية ، ومن لقيته من المرتدة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكل به . فسار عكرمة لما أمره به الصديق ، فلحق حذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عمان ، وقد كتب إليهما الصديق أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ من السير من عمان أو المقام بها ، فساروا ، فلما اقتربوا من عمان راسلوا جيفرا وعبادا ، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش ، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له : دبا . وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى ، وجعل الذراري والأموال وراء ظهورهم ; ليكون أقوى لحربهم ، واجتمع جيفر وعباد بمكان يقال له : صحار . فعسكرا به وبعثا إلى أمراء الصديق ، فقدموا على المسلمين ، فتقابل [ ص: 482 ] الجيشان هنالك ، وتقاتلوا قتالا شديدا ، وابتلي المسلمون وكادوا أن يولوا ، فمن الله بكرمه ولطفه ; أن بعث إليهم مددا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس ، في جماعة من الأمراء ، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر ، فولى المشركون مدبرين ، وركب المسلمون ظهورهم ، فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل وسبوا الذراري ، وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها ، وبعثوا بالخمس إلى الصديق ، رضي الله عنه ، مع أحد الأمراء ، وهو عرفجة ، ثم رجع إلى أصحابه .
وأما مهرة ، فإنهم لما فرغوا من عمان كما ذكرنا ، سار عكرمة بالناس إلى بلاد مهرة ، بمن معه من الجيوش ، ومن أضيف إليها حتى اقتحم على مهرة بلادها ، فوجدهم جندين ; على أحدهما - وهم الأكثر - أمير يقال له : المصبح . أحد بني محارب ، وعلى الجند الآخر أمير يقال له : شخريت . وهما مختلفان ، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين ، فراسل عكرمة شخريت ، فأجابه وانضاف إلى عكرمة ، فقوي بذلك المسلمون ، وضعف جأش المصبح ، فبعث إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السمع والطاعة ، فاغتر بكثرة من معه ومخالفة لشخريت ، فتمادى في طغيانه ، فسار إليه عكرمة بمن معه من الجنود ، فاقتتلوا مع المصبح أشد من قتال دبا المتقدم ، ثم فتح الله بالنصر والظفر ، ففر المشركون وقتل المصبح وقتل خلق كثير من قومه ، وغنم المسلمون أموالهم ، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة ، فخمس عكرمة ذلك كله ، وبعث بخمسه إلى الصديق مع شخريت ، وأخبره بما فتح الله عليه ، والبشارة مع رجل يقال له : السائب ، من [ ص: 483 ] بني عابد من مخزوم ، وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم :
جزى الله شخريتا وأفناء هاشم وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب جزاء مسيء لم يراقب لذمة
ولم يرجها فيما يرجى الأقارب أعكرم لولا جمع قومي وفعلهم
لضاقت عليكم بالفضاء المذاهب وكنا كمن اقتاد كفا بأختها
وحلت علينا في الدهور النوائب
وعامة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل سنة ثنتي عشرة ، ولنذكر بعد إيراد هذه الحوادث من توفي في هذه السنة من الأعيان والمشاهير وبالله المستعان . وفيها رجع معاذ بن جبل من اليمن ، وفيها أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما . استقضى