أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
[ ص: 77 ] ومر الكلام في هذا في قوله : ( قل أنفقوا طوعا أو كرها ) وإلى هذا المعنى ذهب وغيره ، وهو اختيار الطبري قال : وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر ; كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر ، وأن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر . انتهى . يعني في تفسير قوله تعالى : ( قل أنفقوا ) وكان قال هناك : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : ( لن يتقبل ) ؟ قلت : هو أمر في معنى الخبر كقوله : ( الزمخشري قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) ، وقوله :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
أي : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت . فإن قيل : متى يجوز نحو هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك : غفر الله لزيد ورحمه . فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة ، وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري هل تتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة . وفي معناه قول القائل :
أحول الذي إن قمت بالسيف عامدا لتضربه لم يستغشك في الود
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم ، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى خلافا بين حالي الاستغفار وتركه ؟ انتهى . وقيل : هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه : أنك لو طلبت الاستغفار لهم طلب المأمور ، أو تركته ترك المنهي عنه ; لم يغفر لهم . وقيل : معناه الاستواء ، أي : استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء . فإن قلت : كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا ؟ فالجواب : قالوا من وجوه : أحدها : أن ذلك كان على سبيل التأليف ليخلص إيمان كثير منهم . وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه ، وصلى عليه ، أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول ، وكان رأس المنافقين وسيدهم . وقيل : فعل ذلك تطييبا لقلب ولده ومن أسلم منهم ، وهذا قريب مما قبله . وقيل : كان المؤمنون يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوا في إيمانهم ، وبعد مماتهم رجاء الغفران ، فنهاه الله عن ذلك وأيأسهم منه ، وقد سأل الرسول أن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه . وقيل : إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهم عن الإسلام ، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال : إنه غير عالم بكفرهم . وقال عبد الله بن عبد الله أبو عبد الله الرازي : الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره : أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار ، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه : الأول : أن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ، فلهذا السبب أمره الله تعالى بالاقتداء ابن عباس بإبراهيم - عليهما السلام - إلا في قوله : ( لأستغفرن لك ) وإذا كان هذا مشهورا في الشرع ، فكيف يجوز الإقدام عليه ؟ الثاني : أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرا على القبيح والمعصية . الثالث : أن إقدامه على الاستغفار لمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب . الرابع : أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردودا عند الله ، وذلك يوجب نقصان منصبه صلى الله عليه وسلم . الخامس : أن هذا الدعاء لو كان مقبولا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة . فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه ، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع ، بل هو كما يقول القائل إن سأله حاجة : لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك [ ص: 78 ] لا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها ، فكذا هاهنا . والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية : ( ذلك بأنهم كفروا ) . فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم ، وإن بلغ سبعين مرة - هي كفرهم وفسقهم . وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين ، فصار هذا القليل شاهدا بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم ، ويؤكد : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . والمعنى : أن فسقهم مانع من الهداية ، فثبت أن الحق ما ذكرناه . وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة : السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة ، لا السبعة التي فوق الستة . انتهى . والعرب تستكثر في الآحاد بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئين بسبعمائة . قال : والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال علي رضي الله تعالى عنه : الزمخشري
لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفا عاقدي النواصي
قال ابن عطية : وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد ، كثيرا ما يجيء غاية ومقنعا في الكثرة . ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى ، وإلى أصحاب العقبة ؟ وقد قال بعض اللغويين : إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين هو شديد الأمر من ذلك السبعة ، فإنها عدد مقنع ، هي في السماوات وفي الأرض ، وفي خلق الإنسان ، وفي بدنه ، وفي أعضائه التي بها يطيع الله ، وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي : عيناه ، وأذناه ، وأسنانه ، وبطنه ، وفرجه ، ويداه ، ورجلاه . وفي سهام الميسر ، وفي الأقاليم ، وغير ذلك ، ومن ذلك السبع العبوس ، والعنبس ، ونحو هذا من القول . انتهى . واستدل القائلون بدليل الخطاب وأن التخصيص بالعدد يدل على أن الحكم فيما وراء ذلك بخلافه - بما روي أنه قال : والله لأزيدن على السبعين ولم ينصرف حتى نزل : ( سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) فكف عنه . قيل : ولقائل أن يقول : هذا الاستدلال بالعكس أولى ؛ لأنه تعالى لما بين أنه لا يغفر لهم ألبتة ثبت أن الحال فيما وراء العدد مساو للحال في العدد ، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه .
قال : فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله تعالى : ( الزمخشري ذلك بأنهم كفروا ) الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : رخص لي ربي فأزيد على السبعين ؟ قلت : لم يخف عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام : ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض . انتهى . وفي هذا السؤال والجواب غض من منصب النبوة ، وسوء أدب على الأنبياء ، ونسبته إليهم ما لا يليق بهم . وإذا كان صلى الله عليه وسلم يقول : أو كما قال ، وهي الإشارة ، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل ؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك ، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم ، ولقد تكلم عند تفسير قوله : ( " لم يكن لنبي خائنة الأعين " عفا الله عنك لم أذنت لهم ) بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أن أنقله فيه ، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل ، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك ، وانتفاء هداية الله الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك ، فهو عام مخصوص .