والاعتراف بالذنب دليل على التوبة ، فلذلك قيل : عسى الله أن يتوب عليهم . قال : عسى من الله واجب . انتهى . وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل ، إذ لفظة ( عسى ) طمع وإشفاق ، فأبرزت التوبة في صورته ، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة ، وذلك صفة الغفران والرحمة . وهذه الآية وإن نزلت في ناس مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة . وقال أبو عثمان : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله : ( ابن عباس وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) . وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي : أن الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وتابوا رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم حول إبراهيم ، وفي ألوانهم شيء ، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة ، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه .
( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) : الخطاب للرسول ، والضمير عائد على ( الذين خلطوا ) قالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا " فنزلت . فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله : ( خذ من أموالهم ) . والذي تظاهرت به أقوال المتأولين وغيره - أنها في هؤلاء المتخلفين ، وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة . فقوله على هذا ( من أموالهم ) هو لجميع الأموال والناس ، عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب ، وفي المأخوذ منهم كالعبيد ، و ( صدقة ) مطلق ، فتصدق بأدنى شيء . وإطلاق ابن عباس ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد . وفي قوله : ( خذ ) ، دليل على أن الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها . و ( من أموالهم ) : متعلق بـ ( خذ ) و ( تطهرهم ) ، و ( تزكيهم ) حال من ضمير ( خذ ) ، فالفاعل ضمير ( خذ ) . وأجازوا أن يكون ( من أموالهم ) في موضع الحال ؛ لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالا ، وأجازوا أن يكون ( تطهرهم ) صفة ، وأن يكون استئنافا ، وأن يكون ضمير ( تطهرهم ) عائدا على ( صدقة ) ، ويبعد هذا لعطف ( وتزكيهم ) فيختلف الضميران ، فأما ما حكى من أن ( تطهرهم ) صفة للصدقة ، و ( تزكيهم ) حال من فاعل ( خذ ) ، فقد رد بأن الواو للعطف ، فيكون التقدير : صدقة مطهرة ومزكيا بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو كان بغير واو جاز . انتهى . ويصح على تقدير مبتدأ محذوف ، والواو للحال ، أي : وأنت تزكيهم ، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب . والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال . وقرأ مكي الحسن : ( تطهرهم ) ، من أطهر ، واطهر وطهر للتعدية من طهر . ( وصل عليهم ) أي : ادع لهم ، أو استغفر لهم ، أو صل عليهم إذا ماتوا ، أقوال . ومعنى ( سكن ) : طمأنينة لهم أن الله قبل صدقتهم ، قاله : أو رحمة لهم ، قاله أيضا ، أو قربة ، قاله أيضا ، أو زيادة وقار لهم ، قاله ابن عباس قتادة ، أو تثبيت لقلوبهم ، قاله أبو عبيدة ، أو أمن لهم . قال :
يا جارة الحي إن لا كنت لي سكنا إذ ليس بعض من الجيران أسكنني
وهذه أقوال متقاربة . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما كانت سكنا لهم ؛ لأن روحه صلى الله عليه وسلم كانت روحا قوية مشرقة صافية ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على [ ص: 96 ] أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت سرائرهم ، وانقلبوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية . قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان ، عرف بابن النقيب ، في كتابه التحرير والتحبير : كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أن قوى الأنفس مؤثرة فعالة ، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير . انتهى . وقال الحسن وقتادة في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة : هم سوى الثلاثة الذين خلفوا . وقرأ الأخوان وحفص : ( إن صلاتك ) هنا ، وفي هود ( صلاتك ) بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع . ( والله سميع ) باعترافهم ، ( عليم ) بندامتهم وتوبتهم .
( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ) : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فنزلت . وفي مصحف أبي ، وقراءة الحسن بخلاف عنه : ( ألم تعلموا ) بالتاء على الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطابا للمتخلفين الذين قالوا : ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء ؟ واحتمل أن يكون على معنى : قل لهم يا محمد ، وأن يكون خطابا على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول ، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء . وهو تخصيص وتأكيد أن الله من شأنه قبول توبة من تاب ، فكأنه قيل : أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله ؟ وقيل : وجه التخصيص بـ " هو " - هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره ، فاقصدوه ووجهوها إليه . قال : وأخذ الصدقات معناه قبولها ، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل ، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة ، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل . وقال الزجاج ابن عطية : المعنى يأمر بها ويشرعها ، كما تقول : أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه . و " عن " بمعنى " من " ، وكثيرا ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه ، تقول : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره ، وعن أسره ونظره . انتهى . وقيل : كلمة " من " وكلمة " عن " متقاربتان ، إلا أن " عن " تفيد البعد . فإذا قيل : جلس عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب ، ولكن مع ضرب من البعد ، فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب ، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته . فلفظة " عن " كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب . انتهى . والذي يظهر من موضوع " عن " أنها للمجاوزة . فإن قلت : أخذت العلم عن زيد ; فمعناه أنه جاوز إليك ، وإذا قلت : من زيد ; دل على ابتداء الغاية ، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد . و " عن " أبلغ لظهور الانتقال معه ، ولا يظهر مع " من " . وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله ، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم . ألا ترى إلى قوله : ( وأن الله هو التواب الرحيم ) ، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة . ألا ترى إلى ما روي : . " ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة "
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) : صيغة أمر ضمنها الوعيد ، والمعتذرون التائبون من المتخلفين هم المخاطبون . وقيل : هم المعتذرون الذين لم يتوبوا . وقيل : المؤمنون والمنافقون . ( فسيرى الله ) إلى آخرها - تقدم شرح نظيره . وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين ، وهو الظاهر ; فقد أبرزوا بقوله : ( فسيرى الله عملكم ) إبراز المنافقين الذين قيل لهم : ( لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى ) الآية ; تنقيصا من حالهم وتنفيرا عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول ، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه .
[ ص: 97 ] ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ) : قال ، ابن عباس وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق : نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم : هلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع العامري ، . وقيل : نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار . وقرأ وكعب بن مالك الحسن ، وطلحة ، وأبو جعفر ، وابن نصاح ، ، والأعرج ونافع ، وحمزة ، ، والكسائي وحفص : ( مرجون ) و ( ترجي ) بغير همز . وقرأ باقي السبعة بالهمز ، وهما لغتان . ( لأمر الله ) أي : لحكمه ، ( إما يعذبهم ) إن أصروا ولم يتوبوا ، ( وإما يتوب عليهم ) إن تابوا . وقال الحسن : هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضرته . وقال الأصم : يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بما علم منهم ، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا . و " إما " معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء ، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره ، فهي هنا على أصل موضوعها ، وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك . ( والله عليم ) بما يئول إليه أمرهم ، ( حكيم ) فيما يفعله بهم .