وقرأ جمهور القراء : ( والذين ) بالواو عطفا على ( وآخرون ) ، أي : ومنهم الذين اتخذوا ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبره بغير الواو إذا أعرب مبتدأ . وقال : فإن قلت : ( والذين اتخذوا ) ما محله من الإعراب ؟ قلت : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى : ( والمقيمين الصلاة ) وقيل : هو مبتدأ وخبره محذوف ، معناه فيمن وصفنا ( الذين اتخذوا ) كقوله تعالى : ( الزمخشري والسارق والسارقة ) ، وانتصب ( ضرارا ) على أنه مفعول من أجله ، أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، ومعادة وكفرا وتقوية للنفاق ، وتفريقا بين المؤمنين ؛ لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أن يفترقوا عنه وتختلف كلمتهم ، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه ، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان . ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موضع الحال . وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولا ثانيا لـ ( اتخذوا ) ، ( وإرصادا ) ، أي : إعدادا لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وكان سيدا في قومه نظيرا وقريبا من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد محاورة : " لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم " ، فلم يزل يقاتله وحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام ب مكة مظهرا للعداوة ، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصرا على الرسول ، فمات وحيدا طريدا غريبا بقنسرين ، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمن الرسول ، فكان كما دعا ، وفيه يقول : كعب بن مالك
[ ص: 99 ]
معاذ الله من فعل خبيث كسعيك في العشيرة عبد عمرو وقلت بأن لي شرفا وذكرا
فقد تابعت إيمانا بكفر
وقرأ : ( وإرصادا للذين حاربوا الله ورسوله ) ، والظاهر أن " من قبل " متعلقا بـ ( حارب ) ، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد . وقال الأعمش : فإن قلت : بم يتصل قوله تعالى : ( من قبل ) ؟ قلت : بـ ( اتخذوا ) ، أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف . انتهى . وليس بظاهر ، والخالف هو الذي لا يخرج ، أي للغزو . ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد الزمخشري قباء . قال : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلين . انتهى . كأنه في قوله : إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولا ، وفي قوله : أو لإرادة الحسنى جعله علة ، وكأنه ضمن أراد معنى قصد ، أي : ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة ، وهذا وجه متكلف . فأكذبهم الله في قولهم ، ونهاه أن يقوم فيه فقال : ( لا تقم فيه أبدا ) نهاه ; لأن بناته كانوا خادعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم ، واستدعى قميصه لينهض ، فنزلت : ( لا تقم فيه أبدا ) ، وعبر بالقيام عن الصلاة فيه . الزمخشري
قال وفرقة من الصحابة والتابعين : المؤسس على التقوى مسجد ابن عباس قباء ، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه ب قباء ، وهي : يوم الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى لأن الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار ، وذلك لائق بالقصة . وعن ، زيد بن ثابت وأبي سعيد ، : أنه مسجد الرسول . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " هو مسجدي هذا " لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى . وإذا صح هذا النقل لم يمكن خلافه ، ومن هنا دخلت على الزمان ، واستدل بذلك الكوفيون على أن " من " تكون لابتداء الغاية في الزمان ، وتأوله البصريون على حذف مضاف ، أي : من تأسيس أول يوم ؛ لأن من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان ، وتحقيق ذلك في علم النحو . قال وابن عمر ابن عطية : ويحسن عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو . انتهى . و ( أحق ) بمعنى حقيق ، وليست أفعل تفضيل ، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق ، والتاء في ( أن تقوم ) تاء خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .
وقرأ عبد الله بن يزيد : ( فيه ) بكسر الهاء ، ( فيه ) الثانية بضم الهاء ، جمع بين اللغتين ، والأصل الضم ، وفيه رفع توهم التوكيد ، ورفع ( رجال ) فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع . وجوزوا في ( فيه رجال ) أن يكون صفة لمسجد ، والحال ، والاستئناف . وفي الحديث الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ؟ " قالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك ، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال : " فلا تدعوه إذا " وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف . قال لهم : " يا معشر
وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء ، أيهما أفضل . ورأت فرقة الجمع بينهما ، وشذ ابن حبيب فقال : لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء ، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء . وقيل : هو عام في النجاسات كلها . وقال الحسن : من التطهير من الذنوب بالتوبة . وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب ، فحموا عن آخرهم . وفي دلائل النبوة للبيهقي : أن أهل قباء شكوا الحمى ، فقال : " إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم ، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة " فقالوا : بل اجعلها لنا [ ص: 100 ] طهرة . ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء ، ومحبة الله إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه . وقرأ ابن مصرف : ( يطهروا ) بالإدغام ، وقرأ والأعمش ابن أبي طالب : ( المتطهرين ) .