كبنيانة القاري موضع رحلها وآثار نسعيها من الدف أبلق
وقرأ عيسى بن عمر : ( على تقوى ) بالتنوين ، وحكى هذه القراءة ، وردها الناس . قال سيبويه : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كأرطى . وقرأ جماعة ، منهم ابن جني حمزة وابن عامر ، وأبو بكر : ( جرف ) بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان . وقيل : الأصل الضم . وفي مصحف أبي : ( فانهارت به قواعده في نار جهنم ) ، والظاهر أن هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء أو مسجد الرسول ، ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين . وقال : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين . وروى جابر بن عبد الله : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رئي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وقيل : هذا ضرب مثل ، أي : من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أن بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم . قال سعيد بن جبير ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم ، قاله قتادة ، . و ( خير ) لا شركة بين الأمرين في ( خير ) إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل . وابن جريج
وقال : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ، ورسوله - خير ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازا عن ما ينافي التقوى . فإن قلت : فما معنى قوله تعالى : ( فانهار به في نار جهنم ) ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل ، قيل : ( فانهار به ) على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أن الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، وكنه أمره ، والفاعل ( فانهار ) ، أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، [ ص: 101 ] أو انهار الشفا أو الجرف به ، أي : بالبنيان ، ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره . ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته ، فبنوه ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله . الزمخشري
( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدرا ، أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبنى ، فيكون على حذف مضاف ، أي : لا يزال بناء المبنى . قال : لا يزالون شاكين . وقال ابن عباس : غيظا في قلوبهم ، أي سبب غيظ . وقيل : كفرا في قلوبهم . وقال حبيب بن أبي ثابت عطاء : نفاقا في قلوبهم . وقال ابن جبير : أسفا وندامة . وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه . وقال قتادة : في الكلام حذف ، تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة ، أي : حزازة وغيظا في قلوبهم . وقال ابن عطية : " الذي بنوا " تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه . والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك . ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام . فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء . وبالشك فسر الريبة هنا ، وفسرها ابن عباس بالكفر . وقيل له : أفكفر السدي مجمع بن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة . قال ابن عطية : ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوءا . والآية إنما عنت من أبطن سوءا . وليس مجمع منهم . ويحتمل أن يكون المعنى : لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم . وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق . وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سببا لها ، وكونه سببا لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بغضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلا ونهبا ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية ؟ انتهى ، وفيه تلخيص .
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : ( إلا أن تقطع قلوبهم ) بفتح التاء ، أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنيا للمفعول . وقرئ : ( يقطع ) بالتخفيف . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : ( إلى أن نقطع ) ، وأبو حيوة : ( إلى أن تقطع ) بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب ( قلوبهم ) خطابا للرسول ، أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة . وفي مصحف عبد الله : ( ولو قطعت قلوبهم ) ، وكذلك قرأها أصحابه . وحكى أبو عمرو هذه القراءة : ( إن قطعت ) بتخفيف الطاء . وقرأ طلحة : ( ولو قطعت قلوبهم ) خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل مخاطب . وفي مصحف أبي : ( حتى الممات ) ، وفيه : ( حتى تقطع ) . فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل . وأما على من قرأه مبنيا للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت ، أي : إلى أن يموتوا . وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور . وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه . قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هما . وقال : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة فالريبة قائمة فيها متمكنة . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه [ ص: 102 ] بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم . ( والله عليم ) بأحوالهم ، ( حكيم ) فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم . الزمخشري