وإفراد الله بالعبادة المفهوم من قوله لهم : ( إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله ) [ ص: 218 ] وقيل : على الدين ، وقيل : على الدعاء إلى التوحيد ، وقيل : على تبليغ الرسالة . وكلها أقوال متقاربة ، والمعنى : إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أن أدعوكم إلى الله ، وإني لا أبتغي عما ألقيه إليكم من شرائع الله مالا ، فلا يتفاوت حالكم وحالهم .
وأيضا : فلعلهم ظنوا أنه يريد : الاسترفاد منهم ، فنفاه بقوله : ( لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ) ، فلا تحرموا أنفسكم السعادة الأبدية بتوهم فاسد . ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم ، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم ، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين ، رفعا لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء .
ونظير هذا : ما اقترحت قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرد أتباعه الذين لم يكونوا من قريش . وقرئ : بطارد : بالتنوين ، قال : على الأصل يعني : أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، أصله أن يعمل ولا يضاف ، وهذا ظاهر كلام الزمخشري . ويمكن أن يقال : إن الأصل الإضافة لا العمل ، لأنه قد اعتوره شبهان : أحدهما : شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه . والآخر : شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة ، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه . ( سيبويه أنهم ملاقو ربهم ) : ظاهره التعليل لانتفاء طردهم ، أي : إنهم يلاقون الله ، أي : جزاءه ، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد . وقال : معناه : أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم ، أو : يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي منهم ، وما أعرف غيره منهم ، أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأي من غير نظر ولا تفكر ، وما علي أن أشق على قلوبهم ، وأتعرف ذلك منهم حتى أطردهم ونحوه ( الزمخشري ولا تطرد الذين يدعون ) الآية ، أو هم مصدقون بلقاء ربهم ، موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة ، انتهى .
ووصفهم بالجهل لكونهم بنوا أمرهم على الجهل بالعواقب ، والاغترار بالظواهر . أو لأنهم يتسافلون على المؤمنين ويدعونهم : أراذل ، من قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا أو : تجهلون لقاء ربكم ، أو : تجهلون أنهم خير منكم ، أو : وصفهم بالجهل في هذا الاقتراح ، وهو طرد المؤمنين ونحوه ( من ينصرني ) استفهام معناه : لا ناصر لي من عقاب الله إن طردتهم عن الخير الذي قد قبلوه ، أو لأجل إيمانهم ، قاله الفراء ، وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به ، أنفة منهم أن يكونوا معهم على سواء ، ثم وقفهم بقوله : ( أفلا تذكرون ) ، على النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج . وتقدم تفسير الجمل الثلاث في الأنعام . وتزدري : تفتعل ، والدال بدل من التاء قال : ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور وأنشد الفراء : يباعده الصديق وتزدريه حليلته وينهره الصغير والعائد على الموصول محذوف ، أي : تزدرونهم ، أي : تستحقرهم أعينكم . ولن يؤتيهم : معمول لقوله : ( ولا أقول ) و ( للذين ) : معناه لأجل الذين . ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس : ( لن يؤتيكم ) بكاف الخطاب ، أي : ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله ولا يبطل أجورهم . ( الله أعلم بما في أنفسهم ) : تسليم لله ، أي : لست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك لله تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه .
وقيل : هو رد على قولهم : اتبعك أراذلنا ، أي : لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم ، إن بواطنهم ليست كظواهرهم ، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم . إني : لو فعلت ذلك لمن الظالمين ، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه ، ( قد جادلتنا ) : الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة . وقال الكلبي : دعوتنا . وقيل : وعظتنا ، وقيل : أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك . وقرأ : فأكثرت [ ص: 219 ] جدلنا كقوله : ( ابن عباس وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) فأتنا بما تعدنا من العذاب : المعجل ، وما بمعنى الذي والعائد محذوف أي : بما تعدناه ، أو مصدرية ، وإنما كثرت مجادلته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاما ، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم . قال : إنما يأتيكم به الله ، أي : ليس ذلك إلي إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم ، إن شاء ، أي : إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه ، ولا أن تمتنعوا . ولما قالوا : ( قد جادلتنا ) ، وطلبوا تعجيل العذاب ، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله ، قال : ( ولا ينفعكم نصحي ) . وقرأ : نصحي بفتح النون ، وهو مصدر . عيسى بن عمر الثقفي
وقراءة الجماعة : بضمها ، فاحتمل أن يكون مصدرا كالشكر ، واحتمل أن يكون اسما . وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله : ( ولا ينفعكم نصحي ) ، وهو دليل على جواب الشرط تقديره : إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، والشرط الثاني : اعتقب الشرط الأول . وجوابه أيضا ما دل عليه قوله : ( ولا ينفعكم نصحي ) ، تقديره : إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي . وصار الشرط الثاني شرطا في الأول ، وصار المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما ، وكأن التركيب : إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي ، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو : إن كان الله يريد أن يغويكم . فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي . ونظيره : ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ) وقال : قوله : ( الزمخشري إن كان الله يريد أن يغويكم ) جزاؤه ما دل عليه قوله : ( ولا ينفعكم نصحي ) ، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله : إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني . وقال ابن عطية : وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية ، إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك .
والشرط الثاني : اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأن إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي ، وتعلق الآخر هو بلا ينفع ، انتهى . وكذا قال قال : جواب الأول : النصح ، وجواب الثاني : النفع . والظاهر أن معنى يغويكم : يضلكم من قوله : غوى الرجل يغوي وهو : الضلال . وفيه إسناد الإغواء إلى الله ، فهو حجة على أبو الفرج بن الجوزي المعتزلة إذ يقولون : إن الضلال هو من العبد . وقال : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه ، سمي ذلك إغواء وإملاء ، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به ، سمي : إرشادا وهداية ، انتهى . الزمخشري
وهو على طريقة الاعتزال ، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف ، فلا ينبغي أن يقال : إذا عرف الله ، كما قال ، وللمعتزلي أن يقول : لا يتعين أن تكون إن شرطية ، بل هي نافية والمعنى : ما كان الله يريد أن يغويكم ، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى ، ويكون قوله : ( الزمخشري ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح ) : إخبارا منه لهم وتعزية لنفسه عنهم ، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر . وقيل : معنى ( يغويكم ) : يهلككم ، والغوى : المرض والهلاك . وفي لغة طيء : أصبح فلان غاويا أي : مريضا ، والغوى : بشم الفصيل ، وقاله يعقوب في الإصلاح . وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعا ، قاله الفراء ، وحكاه يقال منه : غوى يغوي . الطبري
وحكى الزهراوي : أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ، أو لما يهلك بعد . قال : وكون معنى يغويكم يهلككم ، قول مرغوب عنه ، وأنكر ابن الأنباري أن يكون الغوى بمعنى : الهلاك ، موجودا في لسان العرب ، وهو محجوج بنقل مكي الفراء وغيره . وإذا كان معنى يغويكم : يهلككم ، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني ، بل الحجة من غير هذا ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر ، فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي ؟ [ ص: 220 ] وفي قوله : ( هو ربكم ) : تنبيه على المعرفة بالخالق ، وأنه الناظر في مصالحكم ، إن شاء أن يغويكم ، وإن شاء أن يهديكم . وفي قوله : ( وإليه ترجعون ) : وعيد وتخويف . ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ) : قيل : هذه الآية اعترضت في قصة نوح ، والأخبار فيها عن قريش . يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : افترى القرآن ، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه ، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده ، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح ، أي : بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه ، فقال عليه السلام : قل إن افتريته فعلي إثم إجرامي ، والإجرام : مصدر أجرم ، ويقال : أجرم وهو الكثير ، وجرم بمعنى .
ومنه قول الشاعر :
طريد عشيرة ورهين ذنب بما جرمت يدي وجنى لساني
وقرئ : ( أجرامي ) بفتح الهمزة جمع جرم ، ذكره النحاس ، وفسر : بآثامي .ومعنى ( مما تجرمون ) : من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي ، وقيل : مما تجرمون من الكفر والتكذيب .