لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف [ ص: 285 ] وأبيه ، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم ، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب ، إذ هو مما يشرح الصبيان ، وذكروا حفظهم له مما يسوءه ، وفي قولهم : ( ما لك لا تأمنا ) دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أن يخرج معهم ، وذكروا سبب الأمن وهو النصح ؛ أي : لم لا تأمنا عليه وحالتنا هذه ؟ والنصح دليل على الأمانة ، ولهذا قرنا في قوله : ( ناصح أمين ) ، وكان قد أحس منهم قبل ما أوجب أن لا يأمنهم عليه ، و ( لا تأمنا ) جملة حالية ، وهذا الاستفهام صحبه التعجب .
وقرأ زيد بن علي وأبو جعفر والزهري : بإدغام نون ( تأمن ) في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك ، والمعنى : يرشد إلى أنه نفي لا نهي ، وليس كقولهم : ما أحسننا في التعجب ؛ لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي ، وقرأ الجمهور : بالإدغام والإشمام للضم ، وعنهم إخفاء الحركة ، فلا يكون إدغاما محضا ، وقرأ وعمرو بن عبيد ابن هرمز : بضم الميم ، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتها ، وإدغام النون في النون ، وقرأ أبي والحسن وطلحة بن مصرف : ( لا تأمننا ) بالإظهار وضم النون على الأصل - وخط المصحف بنون واحدة - وقرأ والأعمش ابن وثاب وأبو رزين : ( لا يتمنا ) على لغة تميم ، وسهل الهمزة بعد الكسرة ، وفي لفظة : ( أرسله ) دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائما ، وانتصب ( غدا ) على الظرف ، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك ، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك ، وأصله : غدو ، فحذفت لامه وقد جاء تاما ، وقرأ الجمهور : ( ابن وثاب يرتع ويلعب ) بالياء والجزم ، والابنان وأبو عمر ، وبالنون والجزم وكسر العين الحرميان ، واختلف عن في إثبات الياء وحذفها ، وروي عن قنبل ابن كثير : ( ويلعب ) بالياء ، وهي قراءة ، وقرأ جعفر بن محمد العلاء بن سيابة : ( يرتع ) بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام ، ( ويلعب ) بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : وهو يلعب ، وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن : بنون مضمومة من ارتعنا ( ونلعب ) بالنون ، وكذلك أبو رجاء ، إلا أنه بالياء فيهما ( يرتع ويلعب ) ، والقراءتان على حذف المفعول ؛ أي : يرتع المواشي أو غيرها . وقرأ النخعي : ( نرتع ) بنون ، ( ويلعب ) بياء ، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه ، وجاء كذلك عن أبي إسحاق ويعقوب ، وكل هذه القراآت الفعلان فيها مبنيان للفاعل ، وقرأ : ( يرتع ويلعب ) بضم الياءين مبنيا للمفعول ، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد ، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه ، ثم حذف واتسع ، فعدي الفعل للضمير ، فكان التقدير : يرتعه ويلعبه ، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوبا لكونه ناب عن الفاعل ، واللعب هنا هو الاستباق والانتضال ، فيدربون بذلك لقتال العدو ، سموه لعبا لأنه بصورة اللعب ، ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم : ( إننا ذهبنا نستبق ) ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه زيد بن علي يعقوب . ومن كسر العين من ( يرتع ) فهو يفتعل ، قال مجاهد : هي من المراعاة أي : يراعي بعضنا بعضا ويحرسه ، وقال ابن زيد : من رعي الإبل أي : يتدرب في الرعي ، وحفظ المال ، أو من رعي النبات والكلأ ، أي : يرتع ؛ على حذف مضاف أي : مواشينا ، ومن أثبت الياء . فقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
انتهى . وقيل : تقدير حذف الحركة في الياء لغة ، فعلى هذا لا يكون ضرورة ، ومن قرأ بسكون العين فالمعنى : نقم في خصب وسعة ، ويعنون من الأكل والشرب ، ( وإنا له لحافظون ) جملة حالية ، والعامل فيه الأمر أو الجواب ، ولا يكون ذلك من باب الإعمال ؛ لأن الحال لا تضمر ، وبأن الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول ، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين : أحدهما : عاجل في الحال ، وهو ما يلحقه من الحزن [ ص: 286 ] لمفارقته وكان لا يصبر عنه ، والثاني : خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم ، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد ، وخص الذئب ؛ لأنه كان السبع الغالب على قطره ، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير ، وكان تنبيها على خوفه عليه ما هو أعظم افتراسا ، ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله :والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
يهولك أن تموت وأنت ملغ لما فيه النجاة من العذاب