( ذا ) اسم الإشارة ، واللام لبعد المشار ، و ( كن ) خطاب لتلك النسوة ، واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن : ( ما هذا بشرا ) بعد عنهن إبقاء عليهن في أن لا تزداد فتنتهن ، وفي أن يرجعن إلى حسنهن ، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد ، ويحتمل أن تكون ( أشارت إليه ) وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعا لمنزلته في الحسن ، واستبعادا لمحله فيه ، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه ، واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة [ ص: 306 ] فيه كأنه قيل : الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له ( هو الذي لمتنني فيه ) أي : في محبته وشغفي به ، قال : ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن : عشقت عبدها الكنعاني تقول : هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ، يعني : إنكن لو تصورنه بحق صورته ، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به ، انتهى . والضمير في ( فيه ) عائد على الزمخشري يوسف ، وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف ، والضمير عائد على الحب ، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه ، انتهى . ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة ، واستنامت إليهن في ذلك ؛ إذ علمت أنهن قد عذرنها .
( فاستعصم ) قال ابن عطية : معناه طلب العصمة ، وتمسك بها وعصاني ، وقال : والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، ونحو : استمسك ، واستوسع ، واستجمع الرأي ، واستفحل الخطب ، وهذا بيان لما كان من الزمخشري يوسف - عليه السلام - لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهم والبرهان ، انتهى . والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم ، فاستفعل فيه موافق لافتعل ، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب ؛ لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه ، وطلب العصمة لا يدل على حصولها ، وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل ، وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل ، والمعنى : امتسك واتسع واجتمع الرأي ، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي : تفحل الخطب نحو : استكبر وتكبر ، ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها : ( ولئن لم يفعل ما آمره ) والضمير في ( آمره ) عائد على الموصول ؛ أي : ما آمر به ، فحذف الجار ، كما حذف في أمرتك الخير ، ومفعول ( آمر ) الأول محذوف ، وكان التقدير ما آمره به ، وإن جعلت ( ما ) مصدرية جاز ، فيعود الضمير على يوسف أي : أمري إياه ، ومعناه : موجب أمري ، وقرأت فرقة : ( وليكونن ) بالنون المشددة ، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة ، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى :
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
( ومن الصاغرين ) : من الأذلاء ، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ) لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته ، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة ، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وأقامت عذرها عند النسوة ، فرقت عليه فتوعدته بالسجن ، وقال له النسوة : أطع وافعل ما أمرتك به ، فقال : ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ) فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها ، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن والصغار ، فالتجأ إلى الله تعالى . والتقدير : دخول السجن ، وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب : ( السجن ) بفتح السين وهو مصدر سجن ؛ أي : حبسهم إياي في السجن أحب إلي ، و ( أحب ) هنا ليست على بابها من التفضيل ؛ لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط ، وإنما هذان شران ، فآثر أحد الشرين على الآخر ، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة ، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة لم يخطر له ببال ، ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله ، والصبر على النوائب ، وانتظار الفرج ، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعيا له في تخليصه ، آثره ثم ناط العصمة بالله ، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين ، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو ، فقال : ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ) أي : أمل إلى ما [ ص: 307 ] يدعونني إليه ، وجعل جواب الشرط قوله : ( أصب ) وهي كلمة مشعرة بالميل فقط ، لا بمباشرة المعصية ، وقرئ ( أصب إليهن ) من صببت صباة فأنا صب ، والصبابة إفراط الشوق ، كأنه ينصب فيما يهوى ، وقراءة الجمهور : ( أصب ) من صبا إلى اللهو يصبو صبا وصبوا ، ويقال : صبا يصبا صبا ، والصبا بالكسر اللهو واللعب ، وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون ؛ لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء لأن الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة . قال الشاعر :أحدى بليلي وما هام الفؤاد بها إلا السفاه وإلا ذكرة حلما
بـدا لـك مـن تلك القلوص بداء
هكذا قاله النحاة والمفسرون ، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة ، فإنه زعم أن قوله : ليسجننه في موضع الفاعل لـ ( بدا ) أي : سجنه حتى حين ، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو ، والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله : ( ليسجنن ) أو من قوله : ( السجن ) على قراءة الجمهور ، أو على ( السجن ) على قراءة من فتح السين ، والضمير في ( لهم ) للعزيز وأهله ، و ( الآيات ) هي : الشواهد الدالة على براءة يوسف ، قال مجاهد وغيره : قد القميص ، فإن كان الشاهد طفلا فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلا فيكون استدلالا بالعادة ، والذي يظهر أن الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي ، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته ، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن ، بل رأوا قول الشاهد وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره ، وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها ، والسدي من حز أيديهن ، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية ، و ( ليسجننه ) جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين ، وقرأ الحسن : ( لتسجننه ) بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه ، أو العزيز وحده على وجه التعظيم ، وقرأ : " عتى " بإبدال حاء حتى عينا ، وهي لغة ابن مسعود هذيل ، وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرئ بلغة قريش " حتى " لا بلغة هذيل ، والمعنى : إلى زمان ، والحين يدل على مطلق الوقت ، ومن عين له هنا زمانا فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف ، لا أنه موضوع في اللغة كذلك ، وكأنها اقترحت زمانا حتى تبصر ما يكون منه ، وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء ، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها ، وعشقه لها ، وجعله زمام أمره بيدها ، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف ، روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس ، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا محبوسة محجوبة ، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإلا حبسته كما أنا محبوسة ، فحينئذ بدا لهم سجنه ، قال : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب بالطبل ، ونودي عليه في أسواق ابن عباس مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته ، فهذا جزاؤه أن يسجن ، قال أبو صالح : ما ذكر هذا الحديث إلا بكى . ابن عباس