فصل من البلد يفصل فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه ، وهو لازم ، [ ص: 345 ] وفصل الشيء فصلا فرق ؛ وهو متعد ، ومعنى ( فصلت العير ) انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب ، وكان قريبا من بيت المقدس . وقيل : بالجزيرة ، وبيت المقدس هو الصحيح ؛ لأن آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن ، وقرأ : ( ولما انفصل العير ) قال ابن عباس : وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام ، هاجت ريح فحملت عرفه . وقال ابن عباس الحسن : من ثمانين فرسخا ، وكان مدة فراقه منه سبعا وسبعين سنة . وعن وابن جريج الحسن أيضا : وجده من مسيرة ثلاثين يوما ، وعنه : مسيرة عشر ليال . وعن أبي أيوب المهروي : أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك . وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا ، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص ، ومعنى ( لأجد ) لأشم فهو وجود حاسة الشم . وقال الشاعر :
وإني لأستشفي بكل غمامة يهب بها من نحو أرضك ريح
ومعنى ( تفندون ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تسفهون . وعن أيضا : تجهلون . وعنه أيضا : تضعفون . وقال ابن عباس عطاء : تكذبون . وقال وابن جبير الحسن : تهرمون . وقال ابن زيد والضحاك ومجاهد أيضا : تقولون ذهب عقلك وخرفت . وقال أبو عمرو : تقبحون . وقال : تعجزون . وقال الكسائي أبو عبيدة : تضللون . وقيل : تخطئون . وهذه كلها متقاربة في المعنى ، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله ، أو لهوى غالب عليه ، أو لكذبه ، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه ، وقال : يقال شيخ مفند ؛ أي : قد فسر رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة ؛ لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد . وقال معناه منذر بن سعيد البلوطي قال : التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكار العقل ، من هرم يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها ، و ( لولا ) هنا حرف امتناع لوجود ، وجوابها محذوف . قال الزمخشري : المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني ، انتهى . وقد يقال : تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حيا لم يمت ؛ لأن وجداني ريحه دال على حياته . والمخاطب بقوله : ( الزمخشري تفندون ) الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون ، إذ كان أولاده جماعة ، وقيل : المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته .والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرشاد ، قال : المعنى إنك لفي خطئك ، وكان حزن ابن عباس يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين ، ولذلك يقال له : ذو الحزنين . وقال مقاتل : الشقاء والعناء . وقال ابن جبير : الجنون ؛ ويعني - والله أعلم - غلبة المحبة . وقيل : الهلاك والذهاب من قولهم : ضل الماء في اللبن أي : ذهب فيه . وقيل : الحب ، ويطلق الضلال على المحبة . وقال ابن عطية : ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به ، وقد تأوله بعض الناس على ذلك ، ولهذا قال قتادة : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال : لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك الزمخشري ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجائك لقائه ، وكان عندهم أنه قد مات . روي عن أن البشير كان ابن عباس يهوذا ؛ لأنه كان جاء بقميص الدم . وقال أبو الفضل الجوهري : قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة ، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه وقال هذا المعنى . السدي
و ( أن ) تطرد زيادتها بعد لما ، والضمير المستكن في ( ألقاه ) عائد على ( البشير ) وهو الظاهر ، هو لقوله : ( فألقوه ) وقيل : يعود على يعقوب ، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه . وقيل : عبر بالوجه عن العينين [ ص: 346 ] لأنهما فيه . وقيل : عبر بالكل عن البعض . و ( ارتد ) عده بعضهم في أخوات كان ، والصحيح أنها ليست من أخواتها ، فانتصب ( بصيرا ) على الحال ، والمعنى : أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر . ففي الكلام ما يشعر أن بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن ؛ لأن فعيلا من صيغ المبالغة ، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى ، انتهى . وليس كذلك لأن فعيلا هنا ليس للمبالغة ، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى . وأما بصيرا هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء ، فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا ؛ لأن فعيلا بمعنى ليس للمبالغة نحو : أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع . وروي أن يعقوب سأل البشير كيف يوسف ؟ قال : ملك مصر . قال : ما أصنع بالملك ؟ قال : على أي دين تركته ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة . وقال الحسن : لم يجد البشير عند يعقوب شيئا يبيته به ، وقال : ما خبزنا شيئا منذ سبع ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت . وقال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، والقوة بعد الضعف ، والشباب بعد الهرم ، والسرور بعد الكرب . والظاهر أن قوله : ( إني أعلم ) محكي بالقول ويريد به ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) فقيل : ما لا تعلمون من حياة يوسف ، وأن الله يجمع بيننا وبينه . وقيل : من صحة رؤيا يوسف - عليه السلام - . وقيل : من بلوى الأنبياء بالحزن ونزول الفرج . وقيل : من أخبار ملك الموت إياي ، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه . وقال ابن عطية : ( ما لا تعلمون ) هو انتظاره لتأويل الرؤيا ، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط . وقال : ألم أقل لكم : يعني قوله : ( الزمخشري إني لأجد ريح يوسف ) أو قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ) . وقوله : ( إني أعلم ) كلام مبتدأ لم يقع عليه القول ، انتهى . وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه . ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف ، وقررهم على قوله : ( ألم أقل لكم ) طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم ، واعترفوا بالخطأ السابق منهم ، و ( سوف أستغفر لكم ) عدة لهم بالاستغفار بسوف ، وهي أبلغ في التنفيس من السين ، فعن : أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر . وعن ابن مسعود : إلى ليلة الجمعة ، وعنه : إلى سحرها ، قال ابن عباس ، السدي ومقاتل : أخر لإجابة الدعاء ، لا ضنة عليهم بالاستغفار ، وقالت فرقة : سوف : إلى قيام الليل . وقال والزجاج ابن جبير وفرقة : إلى الليالي البيض ، فإن الدعاء فيها يستجاب ، وقال : أخره حتى يسأل الشعبي يوسف ، فإن عفا عنهم استغفر لهم . وقيل : أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها ، وقيل : أراد الدوام على الاستغفار لهم ، ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله : ( إنه هو الغفور الرحيم ) .