[ ص: 347 ] في الكلام حذف تقديره : فرحل يعقوب بأهله أجمعين ، وساروا حتى تلقوا يوسف . قيل : وجهز يوسف إلى أبيه جهازا ، ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف ، قيل : والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب - عليه السلام - وهو يمشي يتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر ؟ فقال : لا ، هذا ولدك . فلما لقيه يعقوب - عليه السلام - قال : السلام عليك يا مذهب الأحزان . وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت علي حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك . آوى إليه أبويه أي : ضمهما إليه وعانقهما ، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل . فقال الحسن وابن إسحاق : كانت أمه بالحياة . وقيل : كانت ماتت من نفاس بنيامين ، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله : ( والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) حكي هذا عن الحسن وابن إسحاق أيضا . وقيل : أبوه وخالته ، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل ، والخالة أم . روي عن ، وكانت ربت ابن عباس يوسف ، والرابة تدعى أما . وقال بعضهم : أبوه وجدته أم أمه ، حكاه الزهراوي . وفي مصحف عبد الله : ( آوى إليه أبويه وإخوته ) وظاهر قوله : ادخلوا مصر ، إنه أمر بإنشاء دخول مصر . قال : قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم ، انتهى . فيبقى قوله : فلما دخلوا على السدي يوسف كأنه ضرب له مضرب ، أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه . وقيل : دخلوا عليه في مصر . ومعنى ( ادخلوا مصر ) أي : تمكنوا منها واستقروا فيها .
والظاهر تعلق الدخول على مشيئة الله لما أمرهم بالدخول ، علق ذلك على مشيئة الله ؛ لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة الله ، وما لا يشاء لا يكون . وقال : التقدير ادخلوا الزمخشري مصر إن شاء الله آمنين ، إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال . ومن بدع التفاسير أن قوله : ( إن شاء الله ) من باب التقديم والتأخير ، وأن موضعه بعد قوله : ( سوف أستغفر لكم ربي ) في كلام يعقوب ، انتهى .
[ ص: 348 ] وهذا البدع من التفسير مروي عن ، وهو في غاية البعد ، بل في غاية الامتناع . ابن جريج
والعرش : سرير الملك ، ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره ، واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير ، ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله : ( ادخلوا مصر ) فكان يكون في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل ، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال : ( ادخلوا مصر ) ، ( ورفع أبويه ) ، ( وخروا له ) والضمير في ( وخروا ) عائد على أبويه وعلى إخوته . وقيل : الضمير في ( وخروا ) عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته ، ولم يدخل في الضمير أبواه ، بل رفعهما على سرير ملكه تعظيما لهما ، وظاهر قوله : ( وخروا له سجدا ) أنه السجود المعهود ، وأن الضمير في ( له ) عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله : ( إني رأيت أحد عشر كوكبا ) الآية ، وكان السجود إذ ذاك جائزا من باب التكريم بالمصافحة ، وتقبيل اليد ، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير . وقال قتادة : كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى الله هذه الأمة السلام ؛ تحية أهل الجنة . وقيل : هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط . وقيل : كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض . ولفظة ( وخروا ) تأبى هذين التفسرين . قال الحسن : الضمير في ( له ) عائد على الله أي : خروا لله سجدا شكرا على ما أوزعهم من هذه النعمة ، وقد تأول قوله : ( رأيتهم لي ساجدين ) على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين ، وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون : كان السجود تحية لا عبادة . وقال أبو عبد الله الداراني : لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف ، ويبعد من عقله ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة . وقيل : الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله تعالى ، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول : صليت للكعبة ، وصليت إلى الكعبة ، وقال حسان :
ما كنت أعرف أن الدهر منصرف عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالأشياء والسنن وقيل : السجود هنا التواضع ، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله : ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ) أي : لم يمروا عليها . وقال ثابت : ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) أي : سجودكم هذا تأويل ؛ أي : عاقبة رؤياي أن تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . ( ومن قبل ) متعلق برؤياي ، والمحذوف في ( من قبل ) تقديره : من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي . ومن تأول أن أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه ، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس ، ولا شك أن ذهاب يعقوب - عليه السلام - مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له ، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا ، وعن : أنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه ، وقال ابن عباس ليعقوب : ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) ثم ابتدأ يوسف - عليه السلام - بتعديد نعم الله عليه فقال : ( قد جعلها ربي حقا ) أي : صادقة ، رأيت ما يقع لي في المنام يقظة ، لا باطل فيها ولا لغو . وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض . قيل : ثمانون سنة ، وقيل : ثمانية عشر عاما . وقيل غير ذلك من رتب العدد . وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، و ( أحسن ) أصله أن يتعدى بإلى قال : ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) وقد يتعدى بالباء قال تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر :[ ص: 349 ]
أسئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقد يكون ضمن ( أحسن ) معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحا عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسيا لما جرى منهم إذ قال : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ) وتنبيها على طهارة نفسه ، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة . وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء بكم من البدو من البادية ، وكان ينزل يعقوب - عليه السلام - بأطراف الشام ببادية فلسطين ، وكان رب إبل وغنم وبادية . وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع . قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية . وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع ، وإياه عنى جميل بقوله :
وأنت التي حببت شعبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما وليعقوب - عليه السلام - بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بدا القوم بدوا ، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غورا . إذا أتوا الغور . والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ، وعن . وقابل ابن عباس يوسف - عليه السلام - نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بأبيه وإخوته ، وزوال حزن أبيه . ففي الحديث : " من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة " ( من بعد أن نزغ ) أي : أفسد ، وتقدم الكلام على نزغ ، وأسند النزغ إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال : ( فأزلهما الشيطان عنها ) وذكر هذا القدر من أمر أخوته ؛ لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعا ( إن ربي لطيف ) أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور ، رفيق . و ( من ) في قوله : ( من الملك ) وفي ( من تأويل ) للتبعيض ؛ لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ، ولا علمه إلا بعض التأويل ، ويبعد قول من جعل ( من ) زائدة ، أو جعلها لبيان الجنس .
والظاهر أن الملك هنا ملك مصر . وقيل : ملك نفسه من إنفاذ شهوته . وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة ، ونيل الأماني من الملك . وقرأ عبد الله وعمرو بن ذر : ( آتيتن ، وعلمتن ) بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما ، مع كونهما ثابتتين خطا . وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة قرأ : ( رب آتيتني ) بغير " قد " وانتصب ( فاطر ) على الصفة أو على النداء . و ( أنت وليي ) تتولاني بالنعمة في الدارين ، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي .
وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ، ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت . وقال : لم يتمن الموت حي غير ابن عباس يوسف ، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمني الموت ، وإنما عدد نعمه عليه ، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي : توفني إذا حان أجلي على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين ، وإنما على الإسلام لا الموت ، و ( الصالحين ) أهل الجنة أو الأنبياء ، أو آباؤه تمنى الوفاة إبراهيم وإسحاق ويعقوب .
وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف - عليه السلام - عاش مائة عام وسبعة أعوام ، وله من الولد : إفراثيم ، ومنشا ، ورحمة - زوجة أيوب - عليه السلام - . قال الذهبي : وولد لإفراثيم نون ، ولنون يوشع - وهو فتى موسى - عليه السلام - - . وولد لمنشا موسى ، وهو قبل موسى بن عمران - عليه السلام - . ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر ، وكان ينكر ذلك . وثبت في الصحيح أن صاحب ابن عباس الخضر هو موسى بن عمران . وتوارثت الفراعنة ملك مصر ، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف - عليه السلام - إلى أن بعث موسى - عليه السلام - .