( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) : نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي ، الذي خرب بيت المقدس ، ولم يزل خرابا إلى أن عمر في زمان . وقيل في مشركي العرب : منعوا [ ص: 357 ] المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام ، قاله عمر بن الخطاب عطاء ، عن ، أو في ابن عباس النصارى ، كانوا يودون خراب بيت المقدس ، ويطرحون به الأقذار . وروي عن ، وقال ابن عباس قتادة والسدي : في الروم الذين أعانوا بخت نصر على تخريب بيت المقدس : حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا - على نبينا وعليه السلام - قال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بخت نصر كان قبل مولد المسيح - عليه السلام - بدهر طويل . وقيل في بخت نصر ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد وأبو مسلم : المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام . وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد .
وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد ، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصا ، فالعبرة به لا بخصوص السبب .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه جرى ذكر النصارى في قوله : ( النصارى ليست اليهود على شيء وقالت ) ، وجرى ذكر المشركين في قوله : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسبا لذكرها تلي ما قبلها . ومن : استفهام ، وهو مرفوع بالابتداء . وأظلم : أفعل تفضيل ، وهو خبر عن من . ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته ، وإنما هو بمعنى النفي ، كما قال : ( فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) ؟ أي ما يهلك . ومعنى هذا : لا أحد أظلم ممن منع . وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن ، وهذا أول موارده ، وقال تعالى : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) . وقال : ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ) ؟ ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ) ؟ إلى غير ذلك من الآيات . ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبرا ، ولما كان خبرا توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها ؛ لأنه قال المتأول في هذا : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقال في أخرى : لا أحد أظلم ممن افترى ، وفي أخرى : لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها . فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، وكذلك باقيها . فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض . وقال غيره : التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم في ذلك ، وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية ، أو الافترائية . وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى . وإنما هذا نفي للأظلمية ، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ؛ لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق . لو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضا ؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية . وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية . وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى ، وممن ذكر . ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية . ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر . كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم . لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله الكذب ، أقل ظلما ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساويا في الأظلمية ؛ لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية . فكلها صائرة إلى الكفر ، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فنقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر . ومعناه : أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره . ومن في قوله : ممن منع ، [ ص: 358 ] موصولة بمعنى الذي . وجوز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة . أن يذكر : يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا لمنع ، أو مفعولا من أجله ، فيتعين حذف مضاف ، أي دخول مساجد الله ، أو ما أشبه ذلك ، أو بدلا من مساجد بدل اشتمال ، أي ذكر اسم الله فيها ، أو مفعولا على إسقاط حرف الجر ، أي من أن يذكر . فلما حذفت " من " انتصب على رأي ، أو بقي مجرورا على رأي . وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية ، من تلاوة كتبه ، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به ، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيها على أنهم منعوا من أيسر الأشياء ، وهو التلفظ باسم الله . فمنعهم لما سواه أولى . وحذف الفاعل هنا اختصارا ، لأنهم عالم لا يحصون . وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله ؛ لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله ، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله ، فناسب تقديم المجرور لذلك . وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف ، كما قال تعالى : ( وأن المساجد لله ) ، وخص بلفظ المسجد ، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالا كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف . وكل هذا متعبد به ، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف ؛ لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة . ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " ؟ وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام ، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه - وهو الوجه - التراب الذي هو موطئ قدميه . أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
قال ابن عطية : وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة ، أو خرب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد . وقال : فإن قلت : كيف قيل " مساجد الله " ؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو الزمخشري بيت المقدس ، أو المسجد الحرام ؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عاما ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا ، ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال الله عز وجل : ( ويل لكل همزة لمزة ) ، والمنزول فيه الأخنس بن شريق . انتهى كلامه . وقال غيره : جمعت لأنها قبلة المساجد كلها ، يعني الكعبة للمسلمين ، وبيت المقدس لغيره .
( وسعى في خرابها ) : إما حقيقة ، كتخريب بيت المقدس ، أو مجازا بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها ، إذ ذلك يئول بها إلى الخراب . فجعل المنع خرابا ، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة ، وذلك مجاز . وقال المروزي : قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد ، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد .
( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) : هذه جملة خبرية قالوا تدل على ما يقع في المستقبل ، وذلك من معجز القرآن ، إذ هو من الإخبار بالغيب . وفيها بشارة للمؤمنين بعلو كلمة الإسلام وقهر من عاداه . إلا خائفين : نصب على الحال ، وهو استثناء مفرغ من الأحوال . وقرأ أبي : إلا خيفا ، وهو جمع خائف ، كنائم ونوم ، ولم يجعلها فاصلة ، فلذلك جمعت جمع التكسير . وإبدال الواو ياء ، إذ الأصل خوف ، وذلك جائز كقولهم ، في صوم صيم ، وخوفهم : هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية ، أو من أن يبطش بهم المؤمنون ، أو في المحاكمة ، وهي تتضمن الخوف ، أو ضربا موجعا ؛ لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب ، أقوال . والظاهر أن المعنى : أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه . فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها ، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه ، ويسعى في عمارته ، ولا يدخله الإنسان إلا وجلا خائفا ، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة . ونظير الآية أن يقول : ومن أظلم ممن قتل وليا لله تعالى ؟ [ ص: 359 ] ما كان له أن يلقاه إلا معظما له مكرما أي هذه حالة من يلقى وليا لله ، لا أن يباشره بالقتل . ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه ، إذ كان ينبغي أن يقع ضده ، وهو التبجيل والتعظيم . ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين ، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم . ولو أريد ما ذكروه ، لكان اللفظ : أولئك ما يدخلونها إلا خائفين ، ولم يأت بلفظ : " ما كان لهم " ، الدالة على نفي الابتغاء . وقيل المعنى : ما كان لهم في حكم الله ، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقويهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين . قال بعض الناس : وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف ، وليس كما قال ، إذ قد ذكرنا ما دل عليه ظاهر الآية . وقيل في قوله : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ) : أن لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم ، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله : ( وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجرا حجرا . فلما رأى أن هذا يعارض الآية إذا جعلناها خبرا لفظا ومعنى حملها على الأمر ، ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جدا ، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، بطلت هذه الأقوال . وأما قوله تعالى : ( فإذا جاء وعد الآخرة ) ، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه ، إن شاء الله تعالى . وقوله : ( أولئك ) ، حمل على معنى من في قوله : ( ومن أظلم ) ، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة ، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام ، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب . أما إذا كانت موصوفة نحو : مررت بمن محسن لك ، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها . وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة . وقال بعض الناس في قوله تعالى : ( ومن أظلم ) : الآية ، دليل على منع دخول الكافر المسجد ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك ، وهي مسألة تذكر في علم الفقه ، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية .